«الكهنة آمون وأخناتون».. تفاصيل أول مؤامرة لإزاحة الملك عن العرش في مصر القديمة

وصل الأمر بين الملك أخناتون وبين آمون وعالمه إلى محطة النهاية، وأصبح وجوده داخل طيبة في ظل ثورته الفكرية أمراً مستحيلاً داخل بيئة ملغمة بالغيوم والرفض الكامل لتلك الثورة. فأصبحت الصدور ملئى بالغضب الشديد مصحوبة بالقلق البالغ، ينظر العامة لتحركات الملك ونفوذ رجاله وطقوس قرابينه لمعبوده الجديد – والتي كانت تتم بمبالغة كبيرة وبزخ جارف- بعين غاضبة وحزن على معبودهم القديم الذي توارت شمسه.

أما الملك فأصبح مهدداً داخل قصره في طيبة تطاله أعين المتآمرين وكأنها أسهم تدخل في صدره، ويسمع همهمات الألسن الناطقة باللعنات، وأضمر كهنة آمون له مختلف المؤامرات ووصل الأمر برغبتهم في إزاحته من العرش وتدبير المؤامرات على حياته نفسها، وكاد المتآمرون أن ينجحوا في الخلاص منه لولا يقطة حراسه الشخصيين في كشف تلك المؤامرة.

قرر الملك وزوجته نفرتيتي أن يتركا العاصمة القديمة ويتجها إلى بقعة جديدة تكون هي معقل الثورة ومقر عبادة آتون، بقعة بكر لم تطأها قدم من قبل ولم يعبد فيها معبود آخر. ولم تكن تلك المدينة هي المقر الديني ومنطلق العقيدة الجديدة فحسب، بل أنها ستكون عاصمة الدولة وحاضرة العهد الجديد.

ولم يكن هذا القرار سهلاً، حيث ترك طيبة عاصمة الامبراطورية ومركز العالم القديم، المقر الإداري والديني العريق ومحط التجارة والاقتصاد الدولي وموطن كبار رجال الدولة وكبار العائلات المصرية، لكنه كان قراراً جريئاً وفريداً من نوعه لا يجرؤ عليه سوى شاب جرئ ثوري الفكر تصاحبه زوجة شجاعة وافقت زوجها على هذا القرار.

استحضر أخناتون تلك البقعة التي زارها في إحدى المرات خلال العام الرابع من حكمه عندما كان بصحبة نفرتيتي وهما في زورقه والتي تبعد عن طيبة بحوالي 450 كم، حيث تطل من وراء هلال خصيب أرض مقفرة رملية تكتنف البراري وتسكنها الحيوانات المفترسة مغلقة من الناحيتين بالتلال التي تصل حتى شاطئ النهر لتكون أشبه بعالم صغير مستقل لم يعرفه إنسان من قبل. وقع الاختيار على تلك المنطقة كي يبدأ فيها أخناتون دعوته حراً طليقاً دون قيود أو مضايقات، ووجدت نفرتيتي فيها المكان المثالي هرباً من أبهاء طيبة الكئيبة والنظرات المؤنبة.

حيث يحكم آتون وحده دون أي معبود آخر معه. أشار أخناتون إلى تلك البقعة وأقرها عاصمة عصره الجديد ووهبها لمعبوده فأسماها “آخت آتون” أي أفق آتون، والتي سميت في عصرنا الحالي تل العمارنة، تلك التسمية التي ظهرت في القرن التاسع عشر على يد الرحالة الأجانب نسبة لقرية قبيلة بني عمران.

ومع قدوم العام الخامس، إنطلق أخناتون إلى مكان العاصمة الجديدة ولم يكن معه زوجته فقط، بل صحبه كبار رجال دولته المخلصين ليحددوا أسس المدينة ويقيموا مرافقها، ولنا أن نتخيل الملك حينما استدعى كبير المهندسين نخت وكبير النحاتين باك كي يشرفا على عمليات الإنشاء، ووصف لهم مخيلته في إقامة المدينة وأمرهم بإعداد التصميمات وتمهيد الأرض لإقامة المباني والطرق، وإحضار أمهر الصناع وأعتى الفنانين ليزخرفوا الأعمدة والجدران بمناظر الفن الجديد.

فكان عليهم أن يرسموا الطبيعة كما هي في الحقيقة: نضرة واقعية غير محدودة وغير مجردة، فانطلقوا في رسم ونقش الزهور والحيوانات والطيور ممتلئة بالحركة والحيوية، فهي من صنع يد آتون.

إتجه المهندسون وعمالهم نحو الشمال حيث المنطقة المختارة لبداية العمل في رحاب الصحراء المجاورة للشاطئ الشرقي للنيل، وتشكلت آخت آتون من خلال ثلاث طرق تخترقها من الشمال للجنوب بطول 10 كم وتتصل فيما بينها بطرق من الشرق للغرب على مساحة 5كم. أما مركز المدينة فكان يضم مجمع المعابد الرئيسي لآتون.

وفي العام السادس، إتجه الملك بصحبة زوجته المحبوبة نفرتيتي والملكة الأم تي وأخته الأميرة والكاهنة باكت آتون وعدد من النبلاء وكبار رجال الدولة والبلاط من المرفأ الكبير بطيبة، ولكن تلك المرة غادر الأسطول الملكي طيبة للأبد دون رجعةمتجهاً نحو العاصمة، حيث وقف الملك وأعلن أمام الجميع: “إن جلالتي لن يغادر حدود مدينة آخت آتون أبداً..”.

وما أن سمع الجمع تلك الكلمات حتى أصابتهم الصدمة الكبرى، فالملك بعد الإنتهاء من مدينته سوف يهجر مدينة آمون عاصمة الأجداد ويترك شعبها دون أن يلتفت لهم أبداً ويمكث في آخت آتون حتى الممات.

وإمعاناً في الانغلاق، أمر أخناتون بمحاوطة مدينته الجديدة بمجموعة من اللوحات الحجرية نحتت على واجهات التلال الصخرية العالية التي تتشكل في شبه دائرة تحيط بالموقع لتكون مثابة حدود للمدينة، أقام منها ثلاثة على الضفة الغربية و11 على الضفة الشرقية. تلك اللوحات قد نقشت بعدة مناظر بالحجم الضخم لتناسب ارتفاع اللوحة المهول.

حيث ضمت مناظر للعائلة المالكة وهي تتعبد لآتون في وضع ذا مهابة وتبجيل مصحوبة بنصوص هيروغليفية تنص على قرارات الملك بتقديم القرابين للمعبود آتون، حسبما ذكر الدكتور شريف شعبان في كتابه ” الدين والحكم في مصر.. مواقف فاصلة” والذي صدر عن دار نهضة مصر للنشر والتوزيع.

اقرأ أيضًا..

«ضرب رئيس التحرير في الشارع».. حكايات غريبة عن الصحف