«لم يدفن لمدة ثلاثة ايام».. أسرار موت العميد طه حسين

في كتابه المعنون بـ”الأيام الأخيرة في حياة هؤلاء” يذكر المؤرخ حنفي المحلاوي العديد من الحكايات عن اساطير الأدب المصري.

وفي حديثه عن طه حسين والأيام الأخيرة يقول المحلاوي على لسان سوزان رفيقة حياة العميد:” لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقا ذلك السبت 27 أكتوبر ومع ذلك ففى نحو الساعة الثالثة من بعد الظهر شعر بالضيق كان يريد أن يتكلم لكنه كان يتلفظ الكلمات بعسر شديد وهو يلهت وناديت طبيبه والقلق يسيطر على لكنى لم أعثر عليه فركبنى الغم وعندما وصل كانت النوبة قد زالت وكان طه قد عاد إلى حالته الطبيعية.

وقى تلك اللحظات وصلت برقية الأمم المتحدة التى تعلن فوزه بجائزة حقوق الإنسان وانتظاره فى نيويورك فى العشر من ديسمبر لتسلم الجائزة وكان الطبيب هو الذى قرأها له مهنئنا إياه بحرارة غير أنه لم يجب سوى بإشارة من يده كنت أعرفها جيدا كأنها تقول وإيه أهمية ذلك وكانت تعبر عن احتقارة الدائم لا للثناء والتكريم ولا للأنوطة والأوسمة والنياشين.

الكورتيجين

وبعد أن حقنه الطبيب بالكورتيجين وأوصاه بتناول بعض المسكنات الخفيفة فى الليل غادرنا وهو يطمئننى أنه سوف يرتاح الآن ثم غادرنا السكرتير بدوره فى الساعة الثامنة والنصف وكذلك الخدم وبقيت بمفردى معه، كان يريدني أن أجعله يستلقى على ظهره وكان ذلك مستحيلا بسبب ظهره المسلخ وأصغى ـ وما أكثرما يؤلمنى ذلك ـ إلى صوته يتوسل إلى كصوت طفل صغير قائلا ألا بريدين ألا تريدين ؟

وبعد قليل قال إنهم يريدون بى شرا هناك أناس أشرار

ـ من الذى يريد بك الشر ياصغيرى ؟ من هو الشرير؟

ـ كل الناس

ـ حتى أنا ؟

ـ لا ليس أنت

ثم يقول بسخرية مريرة ذكرتنى بسخريته فى أيام مضت، هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟ من المؤكد أنه كان يستعيد فى تلك اللحظة العقبات التى كان يواجهها والرفض الذى جوبه به والشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة لمرور زمن طويل حتى يتمكنوا من الإدراك، غير أنه لم يستمر بل قال لى فقط كعادته فى كثير جدا من الأحيان: أعطنى يدك وقبلها.

الليلة الأخيرة

ثم جاءت الليلة الأخيرة نادانى عدة مرات لكنه كان ينادينى على هذا النحو بلا مبرر منذ زمن طويل ولما كنت مرهقة للغاية فقد نمت ولم أستيقظ وهذه الذكرى لن تكف عن تعذيبى ونحو الساعة السادسة صباحا جعلته يشرب قليلا من الحليب وتمتم بعض كلمات ونزلت أعد قهوتنا ثم صعت ثانية مع صينيتى ودنوت من سريره وناولته ملعقة من العسل بلعها وبدا لى بالغ الشحوب عندما استدرت إليه بعد أن وضعت الملعقة على الطاولة وهيأت البسكويت لا تنفس ولا نبض ففعلت ما كنت أفعله فى لحظات غشيانه العديد لكنى  كنت أدرك أن ذلك كان بلا فائدة فناديت الدكتور على ووصل بعد نصف ساعة.

محمد شكري

ما كان من الممكن لهذه البرهة من العذوبة الغامرة أن تستمر كانت ابنتى فى نيويورك وكان ابنى فى باريس ولا يمكننى أن أصف المساعدة والعزاء اللذين غمرنى بهما أوائل الذين هرعوا إلى من الأقربين إن ماغمرنى به ذلك اليوم الدكتور غالى وجان فرنسيس وسوسن الزيات وزوجها ومارى كحيل والأب قنواتى كان فوق كل تصور وفوق كل تعبير لقد حمل محمد شكرى على كاهله أعباء كل الإجراءات وعندما قلت له ذلك: إنى وحيدة تماما أجابنى بتلك الكلمات: لا تقولى ذلك فكل البلد من وراءك وكذلك بكلمات إن بدت فى ظاهرها قاسية فقد كانت فى حقيقتها بالغة الجمال إنه لم يعد يخصك

أما القس الشاب الجديد لحى الزمالك فقد أرسل لى هذه الأيات من سفر أيوب :

أما أنا فقد علمت أن وليى حى

والآخر على الأرض يقوم

وبعد أن يفنى جلدى هذا

وبدون جسدى أرى الله

( الإصحاح التاسع عشر 25- 26 )

ولم يسبق له أن رأى طه وكان قد قرأ فى لبنان كتابه الأيام وتمنى من كل قلبه أن يتعرف إليه وفكرت أن بوسعه أن يرى هذا الوجه حتى فى سكون الموت ولقد رآه.

المأتم

كان من الصعوبة بمكان على ولداى أن يحضرا كانت مصر منتصرة لكن الحرب لم تكن قد انتهت وكان المطار مغلقا واستطاعت ابنتى وصهرى الذى كان وزيرا للخارجية وكان فى اللأمم المتحدة آنذاك الوصول مساء الإثنين وأعيد فتح المطار يوم الثلاثاء ووصل ابنى من عمله فى باريس إلى البيت فى ساعة متأخرة من الليل وعلمت بعد ذلك أنه لم يجد سيارة يستأجرها وكان الحزن والإجراءات الإدارية قد أنهكته فقد أغمى عليه فى المترو الأمر الذى فوت عليه الطائرة التى كان يفترض أن يلقى فيها أخته وصهره.

موت العميد

لن أتحدث شيئا عن المأتم فقد علقت عليه الصحف والإذاعة والتليفزيون مطولا لكنى سأقول شيئا ما كان يمكن للصحفيين أن يعرفوه فأمام المسجد كنت وابنتى أمينه ننتظر فى السيارة انطلاق أولئك الذين كانوا سيذهبون إلى المقبرة وكان كثير من أهالى الحى فى ذلك المكان ينتظرون أيضا فى صمت عميق وكان من بينهم بالقرب منا صف من الأطفال والراشدين وكنت أكرر لنفسى أنه من أجلهم ما بذل طه من جهود كثيرة وإليهم إنما كنت أود الحديث ذلك الصباح وممدت يدى نحو أقربهم فأذهلته حركتى فى البداية ثم ما لبث أن نظر إلى بابتسامة جميلة وتناول يدى وسرعان ما امتدت إلى الأيادى عشرون خمسون وفى تلك اللحظة انطلقت السيارة فتراكضوا على مقربة من بابها وهى تنطلق.

ظل 3 ايام بدون دفن

وإذا كانت رفيقة عمر العميد قد حدثتنا عن اللحظات الأخيرة من قبل أن يخرج من فيلته فى طريقه إلى القبر فسوف يتبقى لنا فى نفس الحديث معرفة تفاصيل الصورة التى نقلتها الصحف لجنازته التى خرجت بعد ثلاثة أيام من رحيله حيث ظل جثمانه محنطا بثلاجة المستشفى بالعجوزة هذه الفترة لحين حضور زوج ابنته الدكتور الزيات وزير خارجية مصر فى ذلك الوقت الذى كان متغيبا فى الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك ابنه مؤنس الذى قدم من باريس.