فكري عمر: السوشيال ميديا شوهت صورة الإبداع (حوار)

حوار: حسين عبد العزيز

فكرى عمر الإبداعي يحمل قبسًا من تجليات ألف ليلة وليلة الذي وقع في سحره كتاب كبار على مستوى العالم.. هذا العالم الذى يُطلق عليه الواقعية السحرية وقد أخلص لها، فأبدع نصوصًا مميزة للغاية، لا تهتم بضخامة الحدث قدر ما تهتم ببنائه وتكثيف معانيه والذى يجعلك تتساءل: هل هذا خيالي أم واقعى كما في نص الباص، وتراب النخل العالي. وإلى متن الحوار مع الكاتب والروائي فكرى عمر.. وإلى نص الحوار..

هل تأثرت بما حدث في قريتكم من أحداث جسام منها الإقطاع؟

– تأثرت كثيرًا.. جزءٌ كبير من حكايات الأهل في الطفولة، والصبا كانت عن الإقطاع في بهوت، وعن تمرد بعض الأهالي في 1951م، وما نتج عنه من تطويق الشرطة للقرية، وقبضهم على كثير من رجالها، وإرسالهم “البرابرة” لتأديب القرية، كانوا عبارة عن فرقة عسكرية تطوف شوارع القرية وهم يركبون الجِمال، بأيديهم كرابيج، وبعيونهم نذير مرعب لكل من يخالف حظر التجوال المفروض من بعد آذان المغرب، وجاءت الحكاية عندي في روايتين، أخذت الأولى صيغة خيالية وهي (محاولة التقاط صورة)، والرواية الثانية (وصايا الريح) استلهمت روح الحكاية وأثرها الممتد على البلدة بعد ذلك.

 

هل الأجيال الجديدة تعلم وتفهم تلك الأحداث؟

– أعتقد أن كثيرًا من أصحاب الحكايات، والتجربة أنفسهم تغيرت قناعاتهم عبر الزمن. أحيانًا يحكى أحدهم الحكاية وهو متعاطف مع الفلاحين الذين تمردوا على الإقطاع ممثلًا في هجومهم على سرايا عائلة البدراوي عاشور، وفى المرة الثانية تراه على العكس من ذلك، لكن باستثناءات قليلة. أنت تكتشف مع الوقت أن الأمر خاضع للحالة المزاجية الآنية لمن يحكى، أو موقفه الأيدلوجي، وأوضاعه المالية والاجتماعية، لذلك لدى قناعة بأن جمع الحقائق القديمة من أفواه الناس فقط أمرٌ يفتقد للدقة، فالأجيال الجديدة وأنا واحد منها أمامها حكاية مُشوشة من أفواه أصحابها، وسطور كثيرة في الكتب تحتاج إلى التفكير، والتحليل خصوصًا وأن هذا الحدث كان له أثر كبير فيما تلاه من أحداث سياسية في مصر، كما كان هناك أعمال إبداعية تناولته من زوايا متعددة مثل مسرحية (ياسين وبهية) لـ”نجيب سرور”، وقصائد لـ”صلاح جاهين”، وأفلام سينمائية استلهمت روح ثورة الفلاحين في بهوت في ذلك العصر.

من يقرأ إبداع “فكرى عمر” يرى ويشعر بعالم ألف ليلة مثل غيره ممن تأثروا بهذا العالم، اشرح لنا مدى الاستفادة من التراث في أعمالك الأدبية؟

– قراءتي لـ (ألف ليلة وليلة) جاءت متأخرة. ربما منذ عشر سنوات مضت تقريبًا، لكن تأثيرها كان هائلًا، والأمر لا يخص حكاياتها العجيبة فقط، لكن ما وراءها من خيال مدهش، وبناء محكم على طريقة غير مسبوقة، وقدرتها على تجسيد أحلام الناس الذين أبدعوها وصاغوها.

كانت طفولتي أصلًا متاهة من الحكايات الغريبة، والخيالات المخيفة في ريف تنقطع عنه الكهرباء أكثر الوقت، وينتشر بين ناسه تفسير خرافي للحوادث، وتخويف لنا نحن من الخروج إلى الطرقات البعيدة ليلًا، ورغم عدم تصديقي لأكثرها، لكنني لم أستطع أن أمنع نفسى عن الخوف من تصورها.

كنز الطفولة من الحكايات الرائعة التي استمر تأثري بها كانت قصصًا تحكيها لنا مُدرستنا في الصف الثالث الابتدائي ما زلت أذكر أكثرها حتى الآن، وكتبًا كنا ورثناها عن جدى القارئ النهم للمطالعة، ومنها كتب شغفت بها في طفولتي، وصباي. مع الحواديت الإذاعية، وأساطير من الشرق والغرب في الإذاعة. المذياع في الطفولة كان وسيلة التواصل والترفيه بدلًا من التليفزيون الذى قاوم أبى دخوله بيتنا فترة طويلة.

 

ترى ما الذى أفسد المشهد الإبداعي: هل هي سهولة النشر، أم الفيس بوك، أم ماذا؟

– النشر الخاص، والفيس بوك هما مجرد وسائل. ربما نجحا في إيجاد حلٍ لمشاكل كثيرة في النشر، وشخصيًا أحب أن يحكى كل إنسان حكايته، أن يبدع، ويبرع، ويتحقق. ما يفسد المشهد الإبداعي، أو بالأدق ما يُشوش على الإبداعات الجيدة هو ما يشوش على كل شيء جيد في مصر. لا يمكن بحال فصل الجزء عن الكل. هناك محاولات متعمدة لصنع نجوم أدبية بمقاييس محددة، وكثرة الطباعين لا الناشرين، واستسهال الصحافة الثقافية أحيانًا، وانخفاض الوعي النقدي والجمالي العام مما يُروِّج للسطحي والبسيط.

ظاهرة “الأكثر توزيعا، الأكثر انتشارًا” هل أفسدت الإبداع، وكيف يمكن التغلب عليها؟

– في كل زمن كانت هناك كتابات “الأكثر رواجا والأكثر توزيعًا”، وبتتبع الظاهرة تكتشف أنها غالبًا الأعمال التي غازلت مشاعر الجماهير، أو ابنة الذائقة السائدة وقتها، والموضوعات المثيرة، أو كتابة الرعب بمقاييس أفلام هوليود. تكتشف على العكس من ذلك أن الكتابات والفنون التي صارت عنوانًا لعصورها بعد وفاة كُتَّابها هي ما كانت تحمل رؤى عابرة لأزمنتها، أو تجريبًا مبتكرًا. وليس هذا الأمر بقانون، ولكنه مجرد ملاحظة. أنا مع فكرة أن يكتب الإنسان بأقصى الموهبة، والجد، والطاقة، والتجويد، وليترك أمر الانتشار والشهرة جانبًا؛ لأنى أؤمن بأنه لا شيء يضيع هدرًا.

هل أضرت الجوائز الأدبية التي يصعب حصرها بالعملية الإبداعية؟

– دائمًا ما تُعبِّر الجائزة عن ذائقة لجنة تحكيمها، وتوجهات مانحها، وإن لم تكن التوجهات معلنة، فهي كامنة في اختيار لجنة التحكيم، وفى الرقيب الضمني الذى يضع المحاذير أمام مواضيع بعينها لكل جائزة. المهم أن يدرك الكاتب ذلك سواء فاز بأي جائزة، أو لم يفز، أو لم يتقدم إلى نَيْلها من الأساس. المهم أيضًا ألا يصنع الكاتب رقيبًا داخل نفسه وهو يكتب، للحصول على هذه الجائزة أو تلك.

هل لك أن تحدثنا عن النشاط الأدبي الذى تعج به المنصورة، وأنت كنت أحد مؤسسي مختبر سرديات المنصورة؟

– مختبر سرديات المنصورة والتسمية للصديق القاص “أيمن باتع فهمى” كان وما زال حالة ثقافية، وجمالية كبيرة حاولتْ أن تضيف للمشهد الثقافي الإبداعي في المنصورة ومصر وللإبداع العربي. ربما نجح ذلك لوقت طويل، لكن النشاط الأدبي، أي نشاط، يرتبط دائمًا بمن يقومون به، وبمدى وضوح الأهداف التي يريدون تحققها. أتمنى أن تستمر هذه الروح الجميلة القوية لفترة طويلة. هناك أنشطة أخرى وصالونات أدبية، لكنني مع ذلك وبشكل عام أميل إلى ربط الجزء إلى الكل. ثمة روح مكسورة أثرها في كل مكان. أدرك أن لكل عصر إبداعه، وأن الظروف مهما بلغت قسوتها وعجائبيتها لا توقف المبدع عن الحلم والكتابة، لكنى أتكلم هنا عن النشاط الثقافي في الصالونات، والأندية، والجماعات الثقافية.

نداهة الكتابة، هل أصبحت تنادى على الجميع حتى صار الكُتَّاب أكثر من القراء؟

– كثرة الكُتَّاب والكتابة لا تقلق إطلاقًا. ما يقلق هو العكس. كل قارئ جيد تتشكل لديه رؤية ورغبة في المشاركة. ليت الناس كلها تحب الفن، وتؤمن بأثره، وقدرته على الارتقاء بالحياة الإنسانية.. ستكون حياتنا بالتأكيد أفضل آلاف المرات.

 من يقرأ نص “الباص” يحس أنه عاش الحدث، ويحس أنه يعيشه كل يوم، هل لك أن تحدثنا عن هذا النص القصصي؟

– لا اريد أن أقطع هذا الخط الدقيق بين الفن والواقع، لكن هذه القصة قريبة جدًا من واقعى اليومي. عشت أحداثها تقريبًا أكثر من مرة. رآها بعض القراء قصة رمزية، ربما يكون لنظرتهم مبرراتها، ووجاهتها فلو كتبت قصة واقعية عن موقف يحدث في مكان عام في مصر، فكأنك تصف ما يحدث في مصر كلها، لأنى أعتقد أن موقفًا واحدًا في الحياة يختزل الحياة بطريقة ما.

قصة “تراب النخل العالي”.. نص به الكثير، ويقول الأكثر، فهل يمكن أن تقرأه لنا؟

– “تُراب النخل العالي” بها علاقات كثيرة، وتفسيرات متنوعة بتنوع الناس وأفكارهم. هناك نخلة أسقتها عاصفة على رءوس الناس في بلدة ما، ثم توالى سقوط النخل على البيوت، ولم يجدوا تفسيرًا مقنعًا لذلك. ربما لو تفاهمت حارة الملَّاح بشأن طريق محدد لتفسير الكارثة، والتعامل معها لانتهت نهاية أخرى، لكن هذا ما حدث، ودخل الجميع إلى طريق غامض من محاولات الحل، أو العداء والعراك بكل الوسائل. كثيرٌ من الأصدقاء الذين قرأوا القصة كان لهم نفس التعليق. قالوا لي إن بها مادة رواية، لماذا لم تكتبها رواية؟ أظن أنى لو فعلت ذلك، كنت سأكسر إحكامها، وكثافتها، ومساحة المسكوت عنه التي سمحت بهذا التنوع في التعامل معها.

هل يمكن لك أن تحدثنا لك عن أعز إبداعاتك؟

– كل قصة ورواية تُعبِّر عنى في لحظة ما أحبها، أحب معظم ما كتبت خصوصًا ما استطعت فيه امتلاك القدرة التعبيرية والأسلوبية، لقول ما أردت وتخيلت وأحسست، وإن كنت أحرص على أن اكتشف من خلال القراءات النقدية، أو بمرور الزمن بعض الأشياء التي كان يمكن أن تُحسِّن من قصة بعينها، وهذه اعتبرها خبرة جديدة لقصة جديدة.

اقرأ ايضًا: