دعاء إبراهيم تكتب: الاسم الذي صار حكاية

هذا هُوَ اُسمُكَ
قالتِ اُمرأةٌ،
وغابتْ في المَمَرَّ اللولبيِّ.*

لطالما خشيت بيني وبين نفسي أن أعترف أنني أنسى. وكان من السهل القول أنني أنسى بصورة عامة كالبشر جميعًا. لكن أن أنسى أسماء الأشخاص بصورة خاصة. أقف أمام شخص بيني وبينه ” عيش وملح وحكايات” في محاولة بائسة لإيجاد اسمه بين ثنايا عقلي. أُتبع اللقاءات السريعة بسلام حار بلا اسم. كيف يمكن أن أخلق سلامًا حارًا دون أن أخبر أحدهم:” كيف حالك يا فلان؟!”  أغيب ويغيب، وتبتلعنا الطرقات وأنا أعلم أنه لم يكن سوى سلام عابر سيسقط هو الآخر من ثنايا ذاكرتي.

وكأي عطب في الجسد أحاول أن أخفيه عمدًا. وكأي عطب يمكن أنا أسترضيه أحيانًا بمحاولات خائبة كترديد اسم شخص عدة مرات، أو الاستعداد قبل أي مقابلة بكتابة أسماء الكتاب المفضلين كي لا أنساهم أثناء التسجيل. وتجنب الحديث عن السينما لأنني بالطبع لا أتذكر أسماء الممثلين والمخرجين. والاحتفاظ باسمي كما هو ” دعاء إبراهيم ” دون خيانته بإضافة اسم لا ينتمي إليه. دون العبث بعاديته المثيرة للشفقة والغضب أيضًا. أنا أغضب من الأسماء، ومن اسمي بصورة خاصة. تلك الأسماء المجردة من المعنى. فأسماء الأشخاص لها معنى حين تفارقهم وتعود لأصلها في المعجم. لكنها ما إن ارتبطت بشخص فقدت معناها وصارت مجردة.  كإطار يحفظ للشخص حقه….. في ماذا؟! لا أدري ربما حقه في اللا شيء. أو حقه في أن يحكي حكايته. أو أن ينقل حديثًا: “عن فلان ابن فلان ابن فلان”. أو ربما في ظنه الخاطئ أن هذا الاسم اسمه وحده دون الآخرين.

في إحدى المكتبات التي كنت ألجأ إليها كثيرًا لتصوير رسالة الماجستير أخبرتني بنت لا تشبهني قائلة: “أنتِ أختي.” تلقيت الجملة بتعجب لم يكتمل لأنني كنت متعبة. أو ربما لأن حديثها بدا كنكتة ثقيلة. لكنها أوضحت أن لنا نفس الاسم الرباعي. ابتسمت سريعًا قبل أن أبادرها: ” لي أخوة كثيرون” نحتفظ بأخويتنا المزعومة بتواطؤ يكشفه فقط اسم الأم داخل شهادة الميلاد. وهذا من حسن حظي.

من أنتِ؟ ما اسمكِ؟
سَمِّني، لأكونَ ما سَمِّيتْنَي*.

ماذا لو قررت في لحظة جريئة تسمية نفسي باسم مميز. قد تبدو تجربة لها ثقل. لكن ماذا لو نسيت أنه اسمي كمئات الأسماء التي أنساها. أنظر له وأقول: “اسم ضائع متبنى” وأدقق في بطاقتي مرددة بدراما حقيقية:” لا أعرفه. لا ينتمي إلي.” كأنني أطلق سهمًا في الريح دون أن أعرف إلى أين سيذهب. لم أجرؤ على فعلها على كل حال.

أتأمل الروايات التي تملأ أرفف المكتبات بعد انتهاء معرض القاهرة للكتاب في دورته الأخيرة. آلاف الحكايات التي تبدو لوهلة كإخوة. أنظر للحكاية كأنها اسم بلا معنى. مجردة من كل شيء. أبحث دومًا عما وراء الحكاية. لأن الحكايات المفرطة في الكثر لابد أن تتشابه. هل أبحث عن حكاية كمن يبحث عن اسم عادي وسط ألاف الأشخاص ممن يحملون الاسم ذاته، أم أبحث عن أصل الحكاية، المعنى، الدلالة، ما تريده الحكاية من قارئها. هناك آلاف الروايات الفارغة من المعنى كأسماء. وهناك معنى ينبت من إطار حكاية غير مكتملة. في رواية ” الدودة الهائلة ” لكافكا يوجد إطار حكاية وليست حكاية بالمعنى التقليدي. هناك شخص استيقظ في الصباح فوجد نفسه حشرة وهكذا، انتهت الحكاية. كيف أضاف كافكا لحكايته معنى، دلالة، فلسفة، كيف صنع كافكا ” ما وراء الحكاية” يمكن التساؤل كيف جعل كافكا لحكايته قيمة فنية تميزها عن غيرها؟! في رواية انقطاعات الموت لساراماجو هناك إطار للحكاية “ماذا لو انقطع الموت ثم عاد ؟!”  والسؤال هنا، كيف تصنع الفكرة حكاية؟ أو بالأحرى كيف تصنع الحكاية مرادها الفني؟! وفي المجموعة القصصية المميزة للكاتب عبد الله ناصر “العالق في يوم أحد” لا توجد أسماء أو حكايات بالمعنى التقليدي لكن هناك معنى ودلالة جمالية؛ كأن الكاتب قرر أن يقفز فوق الحكاية ليصل لما بعدها مباشرة. والأمثلة كثيرة في هذا الشأن.

ولكي لا أطيل، كلنا نحكي. الجدة، الأم، الرجل في عمله، الأصدقاء في جلسات النميمة وفي تجمعات العائلة حول المائدة. العالم مليء بالحكايات. كيف تضيف الحكاية قيمة فنية أبعد من كونها حكاية فنية؟ هل يكفي أن يحكي الحكاية حكاء ماهر فحسب؟!  يقول:” سيبريانو ألغور” أحد شخصيات رواية الكهف لساراماجو:” هناك من يقضي حياته كلها في القراءة دون أن يمضي إلى ما هو أبعد من القراءة، هؤلاء يبقون ملتصقين بالصفحات، لا يدركون أن الكلمات ليست سوى أحجار مصفوفة تعترض تيار النهر، وأنها موجودة فقط كي نتمكن من استعمالها للوصول إلى الضفة الأخرى. الضفة الأخرى هي المهمة، إلا إذا، إلا إذا ماذا……”

أقول أنا: إلا إذا لم يكن هناك ضفة أخرى، إذا كان العمل منشغلًا بالحكاية الضيقة /الضفة الضيقة أكثر من انشغاله بالقيمة الفنية. كمن حاول الانتقام من اسمه العادي بزخرفة مميزة ثم أطلقه كسهم دون وجهة محددة. أنا أيضًا أنتقم بسذاجة الأطفال من الأسماء بتجريد أبطالي منها. عمل وراء الآخر دون أن يتذمر أحد، أو لأكون صادقة، دون أن ينتبه أحد. وهكذا يمكن أن تُجرد الرواية من الحكاية. من الانشغال بها. من اللهث ورائها باعتبارها غاية. لتبقى الغاية سؤالًا عما إذا كانت الحكاية ستصنع فرقًا فنيًا جماليًا أم ستنضم بكل عادية وانبطاح وتتواطأ مع مثيلاتها على أخوية مؤكدة هذه المرة، لأن الروايات على عكس الأسماء لا تحمل “اسم الأم” حين تُطلق في الريح.

* من شعر محمود درويش

اقرا أيضًا..

«جنازة ثانية لرجل وحيد».. قصة قصيرة لدعاء إبراهيم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى