«جنازة ثانية لرجل وحيد».. قصة قصيرة لدعاء إبراهيم

أخبرت زوجتي أن جارنا الذي يسكن في الشقة المقابلة سيموت اليوم ثانيةً. لكن هذه المرة، لن يُترَك ليموت في الحادث الأليم الذي مات فيه من قبل، ولن يُترَك مُلقًى على سرير مستشفى حكومي يومًا كاملًا، حتى يأتي الطبيب الشرعي، ويُخلي الجثة من أي شُبهة جنائية، الأمر كله هذه المرة سيتم بطريقة لائقة، سيموت دافئًا في سريره، كما يتمنَّى أي إنسان، ستدعو امرأته الأقارب جميعًا، لقد أخبرتني بميعاد الجنازة من الآن، ستكون في نهاية الأسبوع، أظن أنه وقت مبكِّر جدًّا لتحديد ميعاد الجنازة، لكنها تقول أن في المرة الأولى لم يحضر الكثير من الناس، بسبب ضيق الوقت، وحدوث الأمر فجأة. فقد مات في عز شبابه، ستجعل الأجواء مناسبة لموتٍ أفضل من سابقه.

_ وانت ناوي تضحك زيّ المرة اللي فاتت في الجنازة وتفضحنا؟

_ أنا ضحكت!!

_ انت مش فاكر ولا إيه؟ أومال الجنازة هتتعمل تاني ليه؟ كانت بتحبه أوي!

_ لا هيعيدوا الجنازة عشان ماضحكش!! نكتة دي.

كان البيت مزدحمًا بالسَّواد، جميعهم مُمسكون بالمناديل وينتحبون. وكانت جارتنا هذه المرة قد دفعت لشاب، لصنع فناجين القهوة للمُعزِّين. وأحضرت شيخًا ليقرأ بعض آيات القرآن، وهو ما لم يتم في المرة الأولى، ربما لأنهم ورثوا أمواله، مما مكَّنهم من دفع المصاريف اللازمة، أسرعت زوجتي نحو جارتنا، فضَّلت ارتداء عباءة بُنيَّة اللون، دلفت إليها، وألقت على مسامعها بعض كلمات العزاء، وسط الأحاديث الجانبية للمعزِّين، الذين كفّوا عن النَّحيب، وأخدوا يتحدثون في أمور الحياة المختلفة، ويرشفون القهوة.

كان الرجل بالداخل في حجرته، ينتظر لحظاته الأخيرة للمرة الثانية. لا يختلف عمَّا كان عليه سوى من بعض الجروح والدماء. كان أكثر هدوءًا من السابق. فلم يكن هناك مجال للصراع، أو لتغيير نهاية سيؤول إليها، فالأمر بات مُسَلَّمًا به.

كانت الجنازة هائلة. حشد كبير من البشر. لم يكن هناك مبرر لعدم المجيء. انطلقوا بعد صلاة الجمعة إلى المدافن، كلما تذكرت عينها وهي تخبرني ألا أضحك، وأنني كنت أضحك في الجنازة السابقة، كلما اشتعل برأسي الغضب. لقد كان من أعز جيراني، كما أننا عِشرة عُمْر، لكنه مات في المرة الأولى، ولم يخبرني. وها هو يموت ثانيةً ولم يخبرني أيضًا. زوجته هي التي أخبرتني، السيدات يُفسدن كل شيء. الحياة والموت، شعرت بالحنق، إنه يتصرف بأنانية مفرطة. فقد أخبرته أكثر من مرة أن يخبرني قبل أن يموت. فربما أود الموت معه، هل أعادوا موته لأنني كنت أضحك في المرة الأولى. ولم أحُسن التصرُّف! لقد مات في المرة الأولى، وهرب من دفع المشاريب التي كان عليه أن يدفعها، بعد أن غلبته في دور الدومينو. لماذا يبكي هؤلاء الحمقى، ألم يكفهم أنهم بكوا في المرة الأولى! أولى به أن يبكي هو علينا، فقد مات بينما نحن نشرب القهوة ونسير خلفه، حظه دائمًا جيد، بل جيد جدًّا، فلم أغلبه سوى مرة واحدة، وبعدها مات، كل هذه المشاريب دفعتها أنا، ولم أمُت في النهاية. نظرتها وهي تتهمني بأنني سبب كل ما يصير الآن، بسبب ضحكة!! أنا لا أتذكر شيئًا، لكن إصرارها مُضحك بالفعل، ابتسمت وأنا أتذكر مدى جنونها، وصلنا إلى القبر، بدأوا يحملون جسده، لينزلوه داخل الحفرة، ويُهيلوا عليه التراب، أدركت أنه لم يعُد له وجود هنا، لقد ذهب بشكل نهائي. وقتها لم أستطع أن أتوقف عن الضحك!.

اقرأ أيضًا:

حسين عبد العزيز: خيري حسن دشن فنًا جديدًا في كتابه “لا شئ هنا”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى