“البناء الفني في أيام بغداد”.. دراسة للدكتور أحمد فرحات

أصدر خليل الجيزاوي خمس روايات في تاريخه الفني، يوميات مدرس البنات، 2000م، الألاضيش 2004م، مواقيت الصمت 2007م، سيرة بني صالح 2011م، أيام بغداد 2019م. ومن هنا فإن رواية أيام بغداد هي آخر رواية مطبوعة للروائي، وبناء عليه فمن المتوقع أن نقرأ رواية بتقنيات حداثية، في بنائها الفني.

البناء الفني هو تضامن جميع عناصر النص لإقامة تشكيل جمالي يحمل رؤية جمالية معينة، وهو أيضا: ” مجموعة القوانين التي تحكم سلوك النظام” وقد ظهر مصطلح البناء الفني لدى جان موكاردفسكي الذي عرّف الأثر الفني بأنه بنية أي نظام من العناصر المحققة فنيا، والموضوعة في تراتيبية معقدة تجمع بينها سيادة عنصر معين على بقية العناصر.

قسم الجيزاوي روايته سبعة فصول، لا يحمل الفصل أي عنوان غير رقمي، بيد أنه أهدى العمل برمته إلى ضحى وكريمة وسوزان أجمل بنات العراق، وأحلى أيام العمر. ثلاث شخصيات نسائية لعبت أدورا مختلفة في الرواية؛ تردد اسم ضحى 61 مرة، وسوزان 18 مرة، وكريمة 15 مرة، ومن هنا حظي اسم ضحى بنصيب كبير على مساحة الرقعة الروائية ككل. وأهمية تكرار اسم ضحى يعني أن الصراع بدأ مبكرا متأخرا في آن معا، متأخرا على مستوى الظهور في الخطاب الروائي، مبكرا أي أن المبدع لم يستعرض أية شخصية مصرية في الرواية يكون بينها وبين البطل صراع خفي، أو صراع ضمني، فمن المعروف سلفا أن البطل مصري، ومن الطبعي أن يتزوج مصرية، لكنه وجد ضحى تهتم به، وتحبه، وتترقب وصوله للعراق مرة أخرى لتتزوجه. فيكون عندئذ صراع بين المرأة المصرية المتواجدة ضمنا، والمرأة العراقية الموجودة بالفعل.

والحقيقة أن الصراع في أيام بغداد متنوع، حيث يجعل الروائي الصراع قائما في كل فصل من فصول الرواية، فمرة يجعله بين المتشددين الأصوليين وبين الوسطيين في فهم الدين، ومرة يجعله بين الشيعة والسنة، وأخرى يجعله بين العاطفة والخوف من المجهول، فهو إذا تزوج ضحى سيواجه هول المجهول.

أما عن الحدث الروائي فإنني أرى أن المبدع عانى معاناة شديدة لنقل الحدث الروائي من حيز الواقعي إلى فضاء الإبداع، وهو في سبيل نقله كان ضروريا أن يمر الحدث بمصفاة لتنقية ما يصلح للعمل الروائي وما لا يصلح منه. فقد عاش الروائي التجربة البغدادية بحذافيرها وجربها، وعانى فيها معاناة هينة أو شديدة قاسية، ونحن مع المعاناة الشديدة فمن هذه المعاناة يتولد الحدث الروائي، ولذ أرجح أن أيام بغداد هي أشبه بسيرة ذاتية ضيقة للمبدع نفسه. فالحدث الروائي في أدق مفهوم له هو كل ما يؤدي إلى تغيير أمر، أو خلق حركة، أو إنتاج شيء، ويمكن تحديده في الرواية بأنه لعبة قوى متواجهة، أو متحالفة تنطوي على أجزاء تشكل بدورها حالات مخالفة، أو مواجهة بين الشخصيات .
نسق الرواية:
اختار الروائي نسقا من عدة أنساق مترائية أمامه، وهو نسق التتابع، مفضلا إياه على النسق المتداخل، أو نسق التضمين، أو النسق الدائري، أو النسق المتوازي. ولكل نسق من الأنساق السابقة له توجهاته ومنطلقاته الفنية. ويعد النسق المتتابع أيسر الأنساق المذكورة وأقربها إلى التقليدية والنمطية. فهو البناء الذي تأخذ فيه الوقائع السردية شكلا متتاليا؛ إذ تبدأ الأحداث من نقطة محددة، وتأخذ بالنمو حتى تصل إلى نهاية محددة. فيهتم هذا البناء بسرد الوقائع بحسب الترتيب الزمني، إذ يخضع بناء الحدث فيه لمنطق السببيبة فالسابق يكون سببا للاحق، ويظل بناء الروائي ينسج حبكة النص صاعدا للأمام بشكل أفقي خطي، فيتأزم المتن الروائي الحكائي في لحظة ما هي الذروة، ثم تنفرج في نهاية يغلق فيها الراوي النص .

وهذا النسق المختار هو أقرب الأنساق إلى التراتبيبة والمنطقية، وأيسرها تداولا للمتلقي البسيط. فلم يرد المبدع أن يجهد المتلقي، واختار له سبل الراحة، وكان يتدخل في شرح المفردات التي يمكن أن تكون فيها مشقة للقارئ المصري، فتشعر للتو أنك أمام راو عليم، يمسك بيده مقاليد الحكي والسرد، يعطيك منها ما يشاء ويخفي عنك ما يشاء، وهو أسلوب قديم، تقليدي، يشعر المتلقي بالملل، والسأم، والدونية، لأنه سيكون في انتظار الراوي المباشر، وحبذا لو انتقى المبدع راويا غير تقليدي، يبث من خلاله ما يشاء؛ فيكون بذلك أوقع للأحداث وسردها.

ومما أضعف البناء الفني في الرواية تدخل الراوي على لسان الشخصيات بميوله وأهوائه، فجنحت الرواية إلى التلقي المباشر، المفعم بالنصح والإرشاد، بطريق المباشرة والتقريرية، ويتضح ذلك على لسان الحاج عبد الرحمن وهو يتلو على بطل الرواية محمد فقرات وعبارات جاهزة منقولة نقلا مباشرا، ولم يُعَنِّ الروائي نفسه ويكتبها من تجاربه الحقيقية، فبدت قلقة في موضعها، وأحلت رباطة السرد الفنية، فترهل السرد، وافتقد المصداقية. تأمل مثلا قوله عن عشتار، وأسطورة إبليس، فأخذهما المبدع نقلا مباشرا سافرا من مواقع الإنترنت.
يبقى أن أشير إلى النهاية، وهي نهاية مفتوحة غير منغلقة، وهي أجمل ما في الرواية من حيث البناء الفني، فلم يُرضِ المتلقي بنهايته؛ لأنه لم يغلقها، وتركها مفتوحة لكل الاحتمالات.

أشار الروائي إلى أن الحاج عبد الرحمن صاحب الفندق على مذهب أهل السنة ، على الرغم من وقوع الفندق في مدينة النجف الشيعية، ومع ذلك جاء الحوار دالا على شيوع الجو الشيعي ليغطي تفاصيل الحوار برمته، تأمل قول سوزان، وهي إحدى قريبات الحاج عبد الرحمن، ومن المفترض أن تكون سنية: هاك الطعام يا أستاذ.. ترى أنك لم تأكل طوال النهار..حرام، دخيلك الله وعلي والحسين والعباس، ص160. وقد تكرر هذا الدعاء أكثر من مرة في الرواية.

هذا؛ ولم تخل الرواية من بعض الهنات اللغوية، التي وقعت نتيجة الطباعة أو السهو، ولا تقلل من قيمة العمل. منها مثلا:
لا تخاف يا والدي.. إنني أعمل فقط بالإجازة.. والصواب لا تخف. ص 12.
له ولدين على خط الجبهة. ص100، والصواب ولدان.
وكان صوت غناؤه.. ص106 والصواب غنائه.

اقرأ ايضًا:

«هل رمسيس الثاني هو فرعون مصر؟».. أسرار من عبادة الفراعنة