«استمر على العرش 86 عامًا».. حكايات الملوك في مصر القديمة

يحكي الدكتور شريف شعبان في كتابه “الدين والحكم في مصر” والصادر عن دار نهضة مصر للنشر والتوزيع عن الكثير من المناطق الفاصلة في هذه المسألة.

الهالة المقدسة

يقول:” كانت الهالة المقدسة حول ملك مصر قائمة على تغلغل التأثير الديني في نفوس الشعب، إلا أن الأحوال الاقتصادية لم تكن حليفة له طوال خط سير حضارة المصرية القديمة. فما أن يصيب البلاد داء اللامركزية وانتشار الفساد بين رجال الدولة أمام أعين ملوك ضعاف ليس لهم تأثير في السيطرة على الأوضاع حتى يضيق الحال على الشعب ويبدأ الزمام في الانفلات.

حكم في السادسة من عمره

فمع نهايات الدولة القديمة كانت أول ضربة للملكية المقدسة، حين تولى حكم مصر طفل لم يكمل السادسة من عمره يدعى “ببي الثاني” استمر على العرش حتى بلغ 92 عاماً، شاخ الرجل وشاخت معه البلاد والنظام الاداري وتكونت مراكز قوى موازية متمثلة في حكام الاقاليم والذين بدأوا يطمعون في الحصول على هيبة الملك، فمنهم من كوّن ميليشات عسكرية وآخر أغلق على إقليمه حدوده وأصبح الحاكم الفعلي له دون الالتفات إلى الأوامر الملكية القادمة من العاصمة منف، وثالث امتنع عن جمع الضرائب المفروضة وإرسالها للعاصمة. حينها توارت هيبة الملك وخفتت هالة القدسية التي كان يحاط بها أو يحيط بها نفسه ومنصبه ولم يعد الملك ذا السطوة فوق البشر وصاحب الكلمة المطاعة على الشعب في فترة عرفت تاريخياً بعصر الإضمحلال الأول.

وقد نتج عن سوء الاحوال الاقتصادية كارثة اجتماعية تمثلت في انتهاك حرمات المقابر الملكية ومقابر كبار رجال الدولة بحثاً عن أية كنوز يمكن التقوت بها، حين تكونت عصابات تعرف ما تحويه تلك المقابر من كنوز لا حصر لها كان المتوفى يود أن تبعث معه في العالم الآخر، واشترك معهم رجال جوعى يريدون سد رمق بطونهم دون النظر لأية قداسة أو حرمة في هذا الفعل الشنيع.

الملكية المصرية

ونجد الملكية المصرية في أسوأ حالاتها فيما قدمه الملك “خيتي” الأول من الأسرة التاسعة لإبنه “مري كارع” من نصائح إبان الحرب الاهلية التي اعتصرت البلاد حين حاول تبرير موقفه من حوادث سرقات المقابر بأنها حدثت دون علمه وهو ما استحق عليه العقاب من المعبودات، على أن أخطر ما دلت عليه تلك الوصايا هي ذكره بأن سعادة الانسان لا تتوقف عند رضى الملك عنه ولكن عما قدمه في حياته من خير في الدنيا، وهو ما يعد اعترافاً من الملك بتساوي البشر أمام المعبودات دون وجود سطوة للملك أو حتى أفضلية.

أوضاع كارثية

على أن أكثر النصوص التي تحدثنا عن كارثية الأوضاع في تلك الفترة المظلمة، نصاً يحمل نقداً مباشراً للملك يصل إلى درجة التشهير والمعروفة بتحذيرات الحكيم “إيبو ور” ، حيث يتهم الملك صراحة بأنه هو السبب في تلك الفوضى والاضطرابات التي أصابت البلاد حين أحاط نفسه وبلاطه بمجموعة من المنافقين والفسدة حتى ساء الحال وفُقد الأمن والأمان، قائلاً بالنص “لديك الحكمة والبصيرة لكنك تترك الاضطرابات وضوضاء المتعاركين في كل مكان..انظر إن كل واحد يضرب الآخر ولا يعبأ بالأوامر..لقد كذبوا عليك..” ووصل به الأمر بأنه تمنى أن يناله نصيب من البلايا التي تضرب البلاد متهمه بالجهل وعدم الكفائة لتلك المكانة العليا.

ليسوا مقدسين

ومع تحسن أحوال البلاد، كان المصريون على نفس اليقين بأن الملك المعبود لابد وأن يعود ليقود دفة البلاد إلى مسارها الصحيح، محافظين على تراثهم الفكري في نظرتهم لملكهم. ولكن في المقابل أصبح ملوك تلك الفترة المعروفة بالدولة الوسطى ليسوا على نفس الدرجة من القدسية والمهابة التي كان عليها الملوك بناة الأهرام، فلم يعد الملك المهاب الذي لا يناله الضعف ولا تمتد إليه يد السوء، بل أصبح يصاب بما يصاب به العامة ويناله الخوف كما ينال الناس. فنجد الملك أمنمحات الأول ينصح إبنه سنوسرت الأول بألا يثق في أقرب الناس إليه حين تعرض للخيانة من صفوة رجال قصره ودبروا له مؤامرة أودت بحياته، وسطرت تلك النصائح في عمل أدبي عرف بنصائح أمنمحات لإبنه  دلت على مدى الإنسانية التي أصبح عليها الملك، وكيف أنه يعترف بخيانة رجاله له وكونه غير قادر على حماية نفسه بعدما كان الملك حامي  الشعب والأرض ومواردها. ومن ثم كانت تلك الثورة الاجتماعية بمثابة خط فاصل في الفكر المصري نحو الملكية المقدسة، حيث كان الملك قبلها معبوداً أكثر منه إنساناً فأصبح إنساناً أكثر منه معبوداً.