أسامة مهران يكتب: ثقافة إلى الأبد

لم أكن معنياً بهذا الأمر، لكن العديد من المقالات لمست محتواه، تطاولت، دخلت مناطق محرمة، تجاوزت الخطوط الحمراء، انتهت الثقافة السائدة بالزيف، والمثقفون أشباه الزائلين، المزيفين، والدخلاء على «عودة الروح»، بالأرواح الشريرة والكائنات الطائشة.

هكذا كانت رؤية أحد الزملاء من مثقفي هذه الأيام، وهكذا لم تخرج رؤيته عن اطارها الزمني الذي يشوه المقصد والهدف، أو عن عوالمهم الخرافية التي سمحت كتائبهم الالكترونية بالتطاول على التراث والموروث وما خفي كان أعظم.

لم يكن أمامي إلا الفضفضة، إلا التناغم مع الحالة والتعليق على ما حدث وإلا فانني سأكون خارج جميع السياقات شبه متفرج، أو شبه متابع، أو شبه متعاطي مع الحدث.

من هنا كان لابد أن أبدا من حيث أتهم الزميل المنظومة بالزيف، بوجوهها المرتبكة المتعالية، وبأحوالها التي لا تسر عدو ولا حبيب.
قلت له على «الخاص»: الله يكون في عونك يالغالي، اسمح لي أن أذيع عليك سراً وأرجو أن تتحملين قليلاً، أنت من القلائل الذين يعلمون أنني دخلت الصحافة بل الصحافة الاقتصادية «الصعبة» من الباب الموارب للشعر، ولعل الكثيرون يسألونني عن العلاقة؟! وهنا أعترف لك: أنه لا علاقة، ولا صلة، ولا تبادل معارف أو تناطح أفكار، ولا اجتثاث ارواح، ولا استنفار أساطير، فلكل طبيعته ولكل خصوصيته، ولكل عالمه.

الثقافة وأحوالها، والمثقف وأزماته، والفعل الجمعي ورؤيته، أبعدوني عن الشعر، ألقوا بي في أكياس سوداء من الأرقام والاحصائيات وسجالات الأزمنة الصعبة، لكن دعني أصارحك مرة أخرى، كل ذلك أهون من أن أكون مثقفاً على رصيف الحالة المزرية، أو شاعراً يقتات الشهرة من أفواه التماسيح الجائعة، أو مُجرباً لا يمتلك من التجارب ما تؤهله أن يذهب للعالم المنسد بمشروع شعري ضد مشاريع أخرى وئدت في المهد، ووريت الثرى في عز الشباب، كان لزاماً علي الهروب من الأسوأ إلى أسوأ، ومن الأكثر زيفاً ورياءاً إلى الأكثر مردوداً وعطاء، وعندما حاولت العودة، وتكررت محاولاتي، أو على الأقل أن أضع قدماً هنا وأخرى هناك، اكتشتف بأن للزيف فرقه ورجاله المخلصين، وللمدعين عالمهم الذي يعيشون فيه، وللدخلاء التحامهم مع المنظومة ولو كره الكارهون.

اكتظت الساحة بما هو ليس حقيقي وما هو ليس منطقي وما هو ليس بشعر، الكارثة أن الدول العربية ما بعد الحدثية رفعت أياديها عن الجميع، تركتهم يتناسلون كيفما يشاءون، ويتكاثرون كيفما يشاءون، ويدعون كيفما يشاءون، انسحبت تماما من المشهد الثقافي، لم تعد الداعم الأكبر، ولا الراعي «الهُمام»، ولا الناصح الأمين، تركت الساحة لأنصاف الأشياء، لما يتيسر لنص من هنا وآخر من هناك، لما تجود به قرائح أنصاف الموهوبين، وأضغاث أحلام الدخلاء والمتكالبين، وهؤلاء الذين يصفون حساباتهم السياسية القديمة على هيئة نصوص أدبية وارهاصات فكرية، ومواقف صعبة.

أما الحقيقيين والمتخصصين، والمبدعين المتوارين فلم ينالوا حظهم من الانتشار والتألق، ولدرجة أن حالة عدم التقدير للمثقف الحقيقي انتقلت من دواوين الدولة العميقة وأبواقها الرسمية إلى مفردات المجتمع، ونظرة الناس، حتى أصبحت القاعدة الشعبية مفلوتة اللجام، بغير ضابط ولا رابط ولا حسيب ولا رقيب، فخرجت علينا الأغنيات الهابطة، والأشعار العجيبة الساقطة، والكلمات المفزعة المتسلطة.

بدت الساحة خالية، خاوية على عروشها إلا من بعض المخلومات المشوهة والأصوات الباهتة، حتى ما أطلقنا عليهم «بالبين بين» أو أصحاب المحاولات شبه الجادة فقد مالوا إلى الاستسهال، إلى التبسيط المخل، إلى الكتابة على طريقة التراجم والنثريات، إلى الاستعانة بالموسيقى الخارجية المضطربة، والايقاعات المرتبكة غير الضرورية، والورش المعاصرة المغلقة على فرقها القديمة التقليدية، هكذا حاول الزميل تفسير ما لا يمكن تفسيره، وتفكيك ما لا يمكن تفكيكه حيث الطامة الكبرى، وحيث الفراغ الكبير الذي تركه السلف للأسوأ من الخلف، حيث المجتمع الذي لم تعد تحركه ماكينة العقل الجمعي، مثلما تديره صالونات ومقاهي وآثار الأماكن «المقدسة».

اقرأ ايضًا:

رابط وزارة الداخلية السعودية في التقديم على الوظائف للرجال والنساء 1444