«أخرج جنيها كاملًا لكي ينفي عنه تهمة البخل».. حكايات المفكر توفيق الحكيم

في كتابه الذي صدر في ثلاثة أجزاء عن دار الهالة للنشر والتوزيع تحت عنوان ” حكايات مصور سينما.. الغريب والخفي أثناء عمل الأفلام ” يحكي مدير التصوير الشهير سعيد شيمي العديد من الحكايات المتعلقة بالمفكرين والكتاب والسينمائيين.

توفيق الحكيم

وفي حكاية عن توفيق الحكيم يقول:” شرع صديقي المخرج التسجيلي أحمد راشد في الإعداد لتصوير فيلم عن الكاتب الكبير توفيق الحكيم. كان ابن الكاتب زميلي في معهد السينما، ولكنه تقريبًا لا يحضر؛ فهو مهتم أكثر بعزف الموسيقى الغربية الحديثة، وكوّن فرقةً لذلك تعزف في الملاهي الليلية باسم (بلاك كوتس) -المعاطف السوداء- وكنت أنا وخطيبتي -وقتَها أبية فريد- نذهب في الصيف إلى حديقة قصر المنتزه في الإسكندرية لنرقص على أنغامها، وكان إسماعيل الحكيم ينفعل بشكلٍ كبير أثناء العزف على القيثار الكهربائي، وفي كثير من لحظات الذروة يستعمل أسنانه في العزف على أوتار القيثار في استعراضٍ مجنون للموسيقى السريعة الإيقاعية الراقصة.

لا يحب التصوير

الكاتب الكبير لا يحب الأحاديث أو التصوير، فاقترحت أن أذهب مع المخرج إلى الكاتب في مكتبه بجريدة الأهرام، فربما حين يعرف أنني كنت زميلًا لابنه يوافق على تصويره، ولقد حدث ذلك بالفعل، ووافق بأعجوبة، وطلب من المخرج خطةً في أماكن تصويره، ورفض بشكلٍ قاطع السفر وتصويره في باريس.

وبالفعل بدأنا التصوير وصوّرناه في لقطات وجلسات مع أصدقائه في فندق سميراميس القديم مع حسين فوزي وتوفيق صالح وغيرهما من الأصدقاء، وأخرج هناك من محفظته جنيهًا جديدًا كاملًا حتى يثبت أمام أصدقائه والكاميرا أنه رجلٌ غير بخيل كما يدّعون عليه بشكلٍ مرح جميل. ثم صورناه في مكتبه بالأهرام وفي كورنيش النيل بجاردن سيتي قرب بيته مع أحد أصدقائه، وكذلك في الإسكندرية في مقهى (بيترو) الشهير في سيدي بشر القريب من بيته، وله ركنٌ باسمه هناك؛ يتجمع فيه كل أحبائه وكثير من الكتّاب الجدد ومحبّي الفن وكتابات توفيق الحكيم. وأثناء تصويري للكاتب لاحظت كم هو حلو الحديث والمعلومات والظُرف في جلساته التي تتسم بسيل مدهشٍ من الفكر والفلسفة والرأي، ثم سافرنا إلى فرنسا لتكملة التصوير حسب السيناريو الدقيق الذي وضعه صديقي المخرج أحمد راشد وبذل مجهودًا كبيرًا في التنقيب والبحث عن تأثر الحكيم بالفن والآداب والثقافة هناك وهو الذاهب لدراسة القانون، فيترك القانون وينغمس في الفن والتبحر في ما يحب عكس ما يريده والده له. وكانت كتب الحكيم نفسها نبراسًا للفيلم “عصفور من الشرق” و”تحت شمس الفكر”، و ” سجن العمر”، و”زهرة العمر”، واُتخذ للفيلم اسمٌ معبر: (توفيق الحكيم عصفور من الشرق)

إيزيس

وفي نفس الوقت كان المسرح القومي قد أعدَّ مسرحية (إيزيس) من تأليف الحكيم لتقديمها في مصر وفرنسا.

واعتبر أحمد راشد أن هذه الفرصةَ مناسبةٌ ذهبية لتصوير وتقديم المسرحية هناك وعلى جمهور غربي، فجعل سفرنا إلى باريس يتوافق مع فرقة المسرح القومي المسافرة، وإن كنا لا علاقة لنا بهم إلا التصوير فقط؛ حيث الفيلم إنتاج المركز القومي للسينما التابع لوزارة الثقافة. كما أن بدل السفر الذي مُنِح لي أنا وأحمد هو بدلٌ حكوميٌّ هزيل بالفعل، فحاولنا زيادته من مالنا الخاص، فكانت السفرية الأولى لي إلى باريس، وكنت في شوقٍ إلى معرفة هذه الحضارة التي قرأت عنها كثيرًا رأْيَ العين.

المسرحية بطولة سميحة أيوب وعبد الله غيث وسميرة عبد العزيز وفردوس عبد الحميد وغيرهم، وقُدِّمت في عرضين: الأول في مدينة (رينز) في شمال فرنسا وهي مدينة القديسة المحاربة (جان دارك)، ويشتهر هذا المكان في فرنسا بزراعة الأعناب ومناجم الحديد.

وكان الشيء الذي لا يُصدَّق أن جمهور المشاهدين الفرنسيين يعلمون عن إيزيس والحضارة المصرية القديمة أضعاف ما يعلمه المصريون الموجودون في الحفل والفرقة، فالحضارة المصرية تُدرَّس بكثافة في فرنسا من قديم الزمن، ولذلك حبُّهم لهذه الحضارة وإعجابهم بفنها وفلسفتها وضميرها جعل المسرح ممتلئًا عن آخره، وأُعِيد هذا العرض في باريس ولاقى نفس النجاح والحب من الجمهور الفرنسي.

وفي فيلمنا كنا حريصين على تصوير الأماكن التي تأثر بها توفيق الحكيم في شبابه وقصصه بها، فكان متحف اللوفر العامر يقضي فيه كل أيام الأحاد؛ لأن الدخول في هذا المتحف في هذا اليوم مجَّانيٌّ لتشجيع الثقافة والفن وبالذات الثقافة البصرية.

قصة حب مع بائعة التذاكر

كان يجلس أمام لوحات كبار رسامي القرن 17 و18 بالساعات يتأمل في اللوحة ويتكشف سحر خطوتها وموضوعها وألوانها، ويذهب إلى مقهى (الدوم) الذي يجتمع فيه الكتّاب والفنانون. وعرفنا حكايته مع مسرح الأوديون، حيث دارت قصة حبه الشهيرة مع بائعة التذاكر. كان الفن والثقافة والفكر هم الزاد الذي جرى في عروقه وهو شاب، وأثّر فيه وجعله هذا الكاتب والمفكر المتميز في الأدب المصري، وكل الفضل في سهولة تلقيه ينابيع ذلك لمجتمعٍ مشجِّعٍ ودافع بكل قوة لهذا النوع من غذاء العقل.

كنا حريصين جدًّا في مصاريف الحياة والإقامة والتنقل ونحن نصوّر، نزلنا في فندقٍ قديم في الحي اللاتيني نستحمُّ بوضع الفرنكات في حصالة الدش لتنزل المياه، ندخل المرحاض كذلك بالنقود. لا نأكل إلا وجبات الساندويتشات الخفيفة، الماء نشربه دون مقابل في الشوارع الباريسية فكل أو أغلب الطرق في المدينة فيها نوافير ماء للشرب.

الباجيت

ادخرنا بعيدًا عن المصاريف اليومية المبلغ المناسب لرجوعنا إلى مطار شارل ديجول الجديد وهو بعيد في شمال باريس، ورغم كل ذلك كنا في اليومين الأخيرين في باريس لا نملك نقودًا للأكل. أول يوم اشترينا خبز الفينو اللذيذ الطويل المسمى هناك (باجيت) واقتسمناه أنا وأحمد. وفي اليوم الثاني فعلنا نفس الشيء وأمعاؤنا تصرخ جوعًا.

عندما أقلعت بنا طائرة شركة مصر للطيران ذهبتُ إلى المضيفة وقلت لها: «أنا وصديقي سينمائيان، عملنا فيلمًا عن توفيق الحكيم في باريس، ولم نأكل شيئًا منذ يومين، هل يمكن أن نأكل الآن قبل أي موعد لتوزيع الطعام؟» كانت مضيفةً إنسانةً وجميلة وشاطرة، أحضرت لنا وجبتين لكل منا.