عزة إبراهيم: أبية فريد تنتمى لجيل الستينيات

أبية فريد تعد أول مديرة تصوير في السينما المصرية، كتبت عنها الكاتبة والناقدة عزة إبراهيم كتابًا بعنوان “أثر الفراشة”، وأكدت خلال كتابها، أن أبية فريد من مواليد 1948 وتنتمى إلى زمن الستينات والسبعينات.

فهو الجيل الذي كانت المرأة فيه شريكةً كاملةَ الأهلية للرجل في خوض معارك الحياة، دون أن يستنزفها مجتمعُها ومحيطها طويًلا في قضايا مبتذلة، أو يحشر أنفه في كل ما يشكل وجودها وكينونـتَها وصورتها وملابسها وحريتها وخروجها من البيت، أو يقحم نفسه في مهاترات حول حقوقها البديهية في العمل والحب والاختيار، فأبية فريد هي ابنة المدينة.

وأضافت الكاتبة أن أبية تنتمي إلى مصر المتحضرة نوعا ما؛ التي نهضت في الستينات محتفية بإنجاز  عريق صاغته الجدات في ثورة ،1919واستكملنه قبل وبعد ثورة يوليو 1952، فهي تنتمي إلى مصر التي شق نساؤها طريقهن بلا تمييز على أساس النوع، مصر التي افتخرت بلطيفة النادي وهي تقود الطائرة في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم تباهت بلطيفة الزيات وهي تفتح الباب لكل النساء على عالم َ أكثر رحابةً من جدران البيت في ستينيات القرن الماضي أيضا.

وتنتمي كذلك إلى المجتمع المصري الناهض الذي لم يكن لديه الوقت والفراغ ليهدر كل طاقته في تنميط البشر، وتوحيد شكل النساء بطمس معالمهن، ليصبحن جميعا نفس الشيء، ونفس ذلك الكيان المقهور المطحون الذي بلا معنى ولا هوية ولا شخصية فردية واضحة ولو نظرنا إلى السينما المصرية وقتها سنجد أن أبية ابنة سينما ذات نظرة ٍ تقدمية للحياة، سينما طامحة ومتطورة وتعادى الرجعية إلى حد ما.

وتحتفي بالفن وبصعود المرأة وجدارتها لتولي كل المناصب العليا، وحقها في أن تحظى بدعم شريك الحياة؛ لا أنانيته وعرقلته لها، تلك السينما التي قدمت فيلم (مراتي مدير عام) سنة 1966قبل أن تنحدر نحو (تيمور وشفيقة) وقصتهما التعيسة سنة، 2007 سينما قوية كان بإمكانها التأثير في المجتمع إلى حد تغيير قوانينه وضبط تشريعاته لتصبح أكثر عدالةً وإنسانية.

كما فعل فيلم المخرج سعيد مرزوق (أريد حلا) الذي كتبته حسن شاه عام 1975لم يكن المجتمع المصري حينها قد انحدر إلى ما هو عليه الآن، فلم يكن قد تخلى عن كل زخمه الحضاري والتاريخي، وفقد نضجه الإنساني، وضل  طريقه، وبات يتخبط في حزمة من الأفكارالبائسة ذات الغلاف الديني المضلل عن الإنسان والمرأة والسينما والوطن والحياة كلها.

وأنا أتأمل صور الألبوم الشخصي النادر لأبية فريد، وكنز الصور والحكايات التي وراءها، وسيل المعلومات التي انفتحت أمامي كخبيئة ثمينة قابعة في وجدان وأرشيف مدير التصوير الكبير سعيد شيمي، زميل دراستها وزوجها ووالد ابنها الوحيد شريف شيمي أثار انتباهي بشدة ليس فقط جمالها الهادئ الواثق الذي يشبه زهور البنفسج المتفتحة لبهجة الحياة، والذي كان يؤهلها لتكون نجمة سينما في الصف الأول.

لكن أيضا قصة حياتها التي تشبه قصص السينما وتراجيديات أبطالها وبطلاتها الذين عشنا معهم بكل كياننا وإحساسنا، فهي مثلهم، تجمع في تكوينها وأقدارها كل التناقضات بين الرقة والهشاشة والقوة والتمكن والموهبة الكبيرة، وبجانب ذلك مفاجآت مرض  نادر  أصابها وأنهى حياتها في أيام قليلة لا تتجاوز السبعة عشر يوما بشكل مأساوي ومباغت مع الأسف؛ مما جعل رحيلها صدمةً قويةً لكل من عرفها.

أيضا لا يمكن أن تخطئ العين كيف كانت أبية فريد عصرية ومتفردة بمقاييس ليست في زمننا الحالي فقط، ولكن أيضا بمقاييس زمنها الذي سبقته بخطوة حينما اختارت اقتحام مجال التصوير السينمائي تحديدا، لتدرسه وتعمل به قبل وبعد تخرجها في معهد السينما.

وكذلك من ناحية صورتها الشخصية كانت أيضا أنيقة ومتألِّقة في ملابسها المواكبة لموضة عصرها، سواء ملابسها العملية في مواقع التصوير أو شياكتها وتألقها في فساتينها التي تحتفي بجمالها وأنوثتها، وبخاصة ذلك الفستان الأصفر الرقيق الذي ارتدته على شاطئ البحر وهي حامل في طفلها شريف.

أنظر إليها الآن من زمني الذي لم تعد المرأة فيه -على الأقل-في عالمنا العربي حرةً في أن ترتدي ما تشاء من الفساتين، أو أن تحتفي وتحتفي معها الحياة بكونها أنثى جميلة، أو على الأقل بكونها تكوينًا إنسانيّا كامل الأهلية؛ من الإجرام اختزاله في صورة موحدة ونظرة ٌ ضيقة ومهينة ومتسترة بقداسة زائفة، يهلل لها شيوخ مأجورون لتدمير هوية ّ وتحضر وعراقة وجلال نظرة الحضارة المصرية القديمة للمرأة؛ تلك الحضارة التي جعلت من إيزيس وحتحور إلهات وربات للسماء والحب والجمال والأمومة والموسيقى والسعادة.

كما شعرت بتقدير كبير للأستاذ سعيد شيمي، ولكل الذين حافظوا على ألبوماتهم الشخصية، ولم يتخلصوا منها كما فعل كثيرون مع الأسف ممن مستهم لوثَ ّ ة التنصِل من تاريخهم الشخصي وألبومات صورهم القديمة؛ فتخلصوا منها لأنها لم تعد تتناسب مع ما أصبحوا عليه من تراجع ورجعية وتبعية لأفكار معادية للفن وللصورة، وتحديد ًا لصورة المرأة الحرة التي ترفض قيودا بلا معنى.

لفت نظري وبهرتني قوة شخصية أبية فريد وطلة كبريائها وشموخها وهي تقيس الضوء والمسافة على وجه توفيق الحكيم الذي اشتهر بأنه عدو للمرأة، حدث ذلك أثناء مشاركتها مع سعيد شيمي في تصوير الفيلم التسجيلي (توفيق الحكيم؛ عصفور من الشرق) للمخرج أحمد راشد.

كان الحكيم في البداية معترضا على تصوير الفيلم، لكنه وافق بعد أن عرف أن سعيد شيمي وأبية فريد كانا زميلين لابنه إسماعيل الحكيم في معهد السينما، وأنهما من رواد حفلات فرقته الموسيقية ( )Black Coatsأو (المعاطف السوداء) الشهيرة التي كانت تقيم حفلاتها في قصر المنتزه في الإسكندرية.

وتابعت إبراهيم في كتابها “أثر الفراشة” فقد كانا يذهبان للرقص هناك ونمت بينهما مشاعرالإعجاب والحب الجميلة على الإيقاعات الموسيقية السريعة والمجنونة للفرقة التي جذبت إليها أبناء ذلك الجيل.جلس توفيق الحكيم مستسلما ومبتسما ومدركا كونَه في حضرة امرأة مختلفة ذكية ونابهة وجادة وتتقن عملَها.

كان الحكيم حينها قد كبر في السن لكن ما زالت سمعتُه القديمة المعروفة للجميع كعدو للمرأة تلاحقه؛ رغم أنه وقتَها كان قد تاب وأناب بعدما لاقاه من هجوم شرس وصل إلى حد إعلانِه توبتَه النصوحة عن هذا العداء للمرأة بين يدي السيدة هدى شعراوي زعيمة الحركة النسائية، والتي لجأ إليها وطلب وساطتها لتصالحه على نساء مصر، ولكي تساعده في الزواج بواحدة وليس أربعة كما كان ينادي، مشبها الرجل بالسيارة التي تحتاج إلى أربعة عجلات لكي تسير، وهو تشبيه كاريكاتوري بائس في الحقيقة.

تلقف سعيد شيمي ومساعدته أبية فريد بكاميرتهما توفيق الحكيم في هذه الحالة النادرة وهو يحكي مشوار حياته في هذا الفيلم التسجيلي، فصوراه في مكتبه بجريدة الأهرام، وفي فندق سميراميس القديم، ومع أصدقائه السندباد الدكتور حسين فوزي، والمخرج الكبير توفيق صالح، وحصل الفيلم على جائزتي أحسن تصوير، وأحسن إخراج في المهرجان القومي الثامن للفيلم التسجيلي والقصير عام 1977.

اقرأ ايضا:

«سيد المنادين».. تفاصيل عن طائفة تخصصت في العثور على التائهين

أبية فريد.. حكايات أول مديرة تصوير في السينما