عبد الكريم العبيدي أصبت بالإغماء في رواية “كم أكره القرن العشرين” (حوار)
طقوسي في الكتابة اقرأ الشعر ثم اشرع في كتابة الرواية
اقرأ للروائيين العالميين.. ومستمع دائم للسيمفونيات لكل ألوان الموسيقى
عشقي للرسم كان سببًا في دخولى عالم الكتابة
الرواية العراقية في “نقطة أمان نسبي”
اطلق على نفسه ابن الحروب والضياع في خنادق الموت والصحراء وأقفاص الأسر في السعودية، ويعد واحدًا من الروائيين العراقيين الذين يمتازون بالقلم الجرئ، أبدع في كتابة الروايات التي جعلت منه اسمًا كبيرًا في هذا العالم، هو عبد الكريم العبيدي الروائي العراقي، الحاصل على جائزة كتارا للرواية العربية في نسختها الرابعة من خلال مشاركته برواية “اللحية الأمريكية معزوفة سقوط بغداد” التي اختيرت ضمن الأحسن في فئة الروايات غير المنشورة.
عمل العبيدي مراسلًا لإذاعة بي بي سي في بغداد لمدة ثلاث سنوات، بث خلالها أكثر من 350 تقريرا اذاعيًا، وخطى بقلمه كتب في الكثير من الصحف والمجلات منها: المدى والنهضة والصباح والساعة ومجلة الجيل ومجلة الشبكة.
وخلال مشواره الروائي، صدر له العديد من المؤلفات منها: رواية ضياع في حفر الباطن، ورواية الذباب والزمرد، ورواية “كم أكره القرن العشرين”، والمجموعة القصصية “ثمانية أعوام في باصورا”، ورواية “اللحية الأمريكية ? معزوفة سقوط بغداد” التي حازت على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2018، ولم يقتصر العبيدي على تأليف الروايات فقط بل صدرت له مسرحية” فوبيا”، كما ألّف مسرحية “تحويلة مؤقتة”.
موقع” مباشر 24″ التقى بالكاتب والروائي العراقي عبدالكريم العبيدي، للحديث حول مشواره في عالم الكتابة، والاطلاع على مشروعه القادم والحديث حول القضايا الثقافية الكثيرة المطروحة على الساحة.. وإلى نص الحوار..
كيف بدأتك رحلتك مع الكتابة؟
أظنها بدأت مع عشقي للجمال، مع محاولات في الرسم، ثم أخذت تتحول بالتدريج، حتى كتبت روايتي الأولى “ضياع في حفر الباطن”. لم أكتب رواية في عهد ما قبل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، أول رواية صدرت لي في عام 3007!
حدثنا عن أول عمل أدبي كتبه؟ وما المعوقات التي واجهتها؟ وما أوجه الشبه بين أول عمل وأخر عمل؟
أنا ابن الحروب والضياع في خنادق الموت والصحراء وأقفاص الأسر في “السعودية”، وبعد زلزال أبريل عام 3003، كتبت ربورتاج متسلسل عن الغزو الأمريكي، وعن ضياعي في حرب الخليج الثانية، ثم كتبت فصولاً من روايتي الأولى في بعض الصحف المحلية، وتحولت فيما بعد الى رواية بعنوان “ضياع في حفر الباطن”، وهي أول رواية لي، وأول رواية عراقية تتحول الى مسلسل درامي في ثلاثين حلقة.
صدر لك العديد من الروايات منها: قصة عرش العراق، ضياع في حفر الباطن، الذباب والزمرد، كم أكره القرن العشرين وغيرها.. أي الروايات الأكثر قربًا لقلبك؟ وما هي كواليس كتابة كل رواية؟
هذه المفاضلة لم تخطر ببالي، لم ترقني ذات يوم، الأمر، في موضوع كهذا، لا يُبنى على تفضيلات أو تصنيفات، أو حتى على وجهة نظر خفية.
شخصياً تركت مثل هذه تصريحات للنقاد والمثقفين، فهؤلاء لهم تفاعلاتهم الخاصة مع قراءة الروايات والكتب عموماً، ومن المؤكد أن لهم وجهات نظر خاصة تجاه أي نص سردي متحوّل النص، كما نعرف غير ثابت، يخضع لسلسلة عديدة من القراءات، ولديه الكثير من التمظهرات، لكنَّ تفاعله، مهما بلغ من قوة الأحكام الذهنية والحميمية مع الآخرين، لا يرقى إلى صحبته غير العادية مع المؤلف.
أنا أب رحوم وصديق لرواياتي، هنَّ “بناتي”، يحملن أبطالاً من المحال نسيانهم، بيني وبين أبطال رواياتي ضحكة، ربما قهقهة، رِحلة لا تنتهي، بيننا حوار يشبهه الهمهمة، حول صياغة أسئلة مستمرة، عن نكبات مستمرة، خسائر، ميتات، وقليل من الفرح.
إنهم يحاولون من خلال سردية النص الذي لم يعد ملكي، فضح آلامهم ومعاناتهم، والمساهمة في تحريات العقل الجمعي، ومحاولة فهم الوجود، لا تفسيره ولا تغييره، هذا الأمر ليس من واجبهم، لكنهم يسهمون “معي” في صنع عالم ممكن للعيش، البحث عن أدنى توافق ممكن بينهم وبين سوء الحال، وفضح ميكانيزمات مخفية لما جرى لهم وللبلاد.
ثمة اندماج تعايشي بيننا إذن، تحت خيمة قوة مقنعة تظهرهم كمخلوقات يتمتعون بتفاعلات أفقية، وحقوق متساوية معي ومع الآخرين. أنا لست متفضلاً عليهم، كل ما قمت به هو أنني أسست لهم مأوى خاص بهم، جلبتهم من “عشوائيات” البلاد وأسكنتهم في واحة!
الشق الآخر من سؤالك، سيبقى ما جرى في كواليس كل رواية سراً. لقد تعلمت من كتابة الربورتاج، وهو أكثر صنوف الاعلام مجلبة للمتاعب والمفاجآت الصادمة، أن القارئ غير معني بمعاناة الكاتب، وبالمخاطر التي قد تودي بحياته، قدر ما يريده منه، وهو موضوع يقرأه ويستمتع به.
العديد من المواقف التي نمر بها اثناء الكتابة، ما هي أغرب المواقف التي واجهتك؟
قد يبدو في الظاهر أن سؤالك لا يبتعد كثيراً عن شق الكواليس، لكنه يبدو مستقلاً إذا ما أعدت ما كشفت عنه في حوارات سابقة، وهو فداحة الجهد المضني الذي بذلته في كتابة روايتي “كم أكره القرن العشرين” الذي أوصلني إلى حد الاغماء، وكدت أفقد حياتي! كتابة الرواية ليست نزهة، أنها أكثر من كتابة أطروحة دكتوراه بعشرات المرات، وهذا الأمر لا يخفى على الروائيين الكبار، وقد يشعر به القارئ الحصيف.
لكل كاتب طقوس.. ماذا عن طقوس هذا العالم لديك؟
لستُ من الروائيين الموسرين الذين يذهبون إلى دولة أو جزيرة معروفة بسحر طبيعتها، ولديهم بيوتاً أو فللاً، لينجزوا مهمة كتابة رواية فيها، كما أنني لا أملك طقساً غريباً في كتابة رواياتي، كأن أقف وأنقر على الطابعة أو الآلة الحاسبة، طوال فترة كتابة الرواية.
أنا سارد نهاري، أميل إلى الكتابة بعد الفراغ من طقوس ما بعد الاستيقاظ مباشرة، أبدأ بقراءة مقاطع شعرية منتقاة، وبعدها أشرع في كتابة مقطع روائي جديد.
في المساء أدخل في الطور الثاني من الكتابة، وهو الصمت والعزلة والشرود، وكالعادة أصاب بأرق مزمن، وتزداد حساسيتي تجاه الكثير من الأمور، وتنتابني موجات نرفزة، وهذه الأمور اعتادت عليها أسرتي، والحق أنها تتحمل الكثير من هذا “الجنون” طوال فترة كتابة الرواية.
الغريب أنني أعاني من الإحساس بالفراغ والضياع في فترة ما بعد ولادة الرواية، ولا يقضي على هذا الإحساس أي أمر آخر، لا القراءة، ولا نزهة ترفيهية، ولا لقاء مع صديق، وغالباً ما ينتهي بالبدء في كتابة رواية جديدة.
مَنْ مِن الأدباء والروائيين أثر في شخصيتك وأسهم في تحديد مسارك الثقافي؟
لا، ليس الأمر محصور بروائيين، على الرغم من أن قراءاتي للروايات كانت شبه محصورة بكبار الروائيين العالميين.
القراء الشاملة هي الحل، اطلعت على كل المدارس الفلسفية ورموزها الكبار، على المدارس النقدية، على المسرحيات العظيمة، على الشعر وعباقرته، وكنت وما أزال أشاهد الكثير من الأفلام السينمائية، ومستمع دائمي للسيمفونيات وكل ألوان الموسيقى، إضافة الى قراءة الروايات العالمية والعربية والعراقية، أن من يتلمس عطر الابداع عليه أن يكون قارئاً مبدعاً أولاً.
هل هناك مشروع رواية تعكف عليه الآن؟
نعم، شرعت في كتابة رواية جديدة، وكالعادة تحتاج إلى ملفات ومصادر كثيرة، الأمر معقداً كسائر رواياتي السابقة.
من أين تستمد شخوص روايتك؟
البطل الروائي كائن حي، شأنه شأن أي مخلوق، وهو شخصية واقعية أو متخيلة، يولد في رحم الرواية الكبرى للروائي، ثم ينشطر بتقنية عالية عن المؤلف ذاته، أو عن شخصية أخرى، أو عن أناس لم تربطه بهم صلة ما، عدا اطلاعه على حقيقتهم.
صناعة البطل الروائي هي عملية خلق جديدة، ولادة عسيرة ومعقدة، تحتاج الى مهارات ومواهب عالية، والأصعب من كل ذلك هو توظيفه مع شخصيات أخرى لصنع أحداث رواية، رواية تبدو فيها كائنات وحوادث منسوجة بمهارة سردية مشوقة، تمنح القارئ قيمة معرفية ومعلوماتية، ولذة فائقة، وألم جميل.
كيف ترى المشهد الثقافي العراقي؟
لا مناص من اجراء قطع للمشهد العراقي، يفصل ما قبل التاسع من أبريل 2003، أي الغزو الأمريكي للعراق عما بعده. هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها.
المشهد العراقي عموماً تغير كثيراً عن نصفه الأول، خصوصاً في حقل السرد، فحالما أدركت الرواية العراقية أنها في “نقطة أمان نسبي” بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وثمة ما يوجد لتضيفه لنفسها، سارعت إلى إعلان أحقِّيتها في امتلاك الحقيقة نيابة عن التاريخ!
هذه الحقيقة مفادها أنه لا يوجد مهرب من سرد حقبة التكتيم التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود دموية، لذلك بادرت بأخذ السرد من معتقل العتمة إلى مساحة غضبية عارمة، تحول فيها السرد من سرد حجري تعبوي إلى سرد منفتح تجريبي يؤسس لعهد روائي جديد، بعد صدمة انهيار الدكتاتورية، وبذلك غدت الرواية العراقية أشبه بميزان المختلف من الأمر وشهادة مثالية على التحقيب المبكر للرواية الجديدة.
لقد عادت الرواية أخيرًا مكتفيةً بذاتها، وانغمرت برحلة فتح الأبواب المغلقة والكشف العجائبي ورفع الغطاء عن أحداث “قديمة مجهولة”، وأخرى في أعوام دموية شهدت التهجير والخطف والقتل على الهوية.
فروايتي “كم أكره القرن العشرين.. معلقة بلوشي” صدرت عام 2017 لكن أحداثها تدور في ثمانينيات القرن الماضي! وروايتي “الذباب والزمرد” كتبت في عام 2009 بينما تدور أحداثها في أعوام الحصار والقحط التسعينية، ويحيلنا هذا القياس إلى روايتي “ضياع في حفر الباطن” التي صدرت عام 2007 وهي تتحدث عن غزو الكويت والهزيمة وضياع أجيال عراقية في مطاحن الحرب.
أظن أن الرواية العراقية محكوم عليها بـ “عقدة الماضي”، لكنها مقبلة على طور التحرر من كل ما هو ماضي واقتحام عصر الكشف والابتكار ومنافسة الروايات “العالمية”.
لماذا اختفت ظاهرة الصالونات الثقافية مثلما كان في زمن العقاد والستينيات؟
الصالونات الثقافية ظاهرة قديمة، انتشرت في العراق ومصر ولبنان ودول عربية أخرى. ويقال ان في مطلع القرن الماضي الى منتصفه، كان هناك أكثر من 200 صالون ثقافي في بغداد، وهناك صالونات عراقية أفتتحت في العاصمة الأردنية عمان في تسعينيات القرن الماضي.
ومن المعروف أن القاهرة شهدت عشرات الصالونات الثقافية الشهيرة، منها: صالون محمد جبريل، وصالون حزين عمر، وصالون دكتور محمد حسن عبد الله، وغيرها كثير.
ومن المهم ألا ننسى ذكر أحد أشهر الصالونات في لبنان وهو صالون الأديبة مي زيادة، ويبدو أن هذه الصالونات انحسرت لأسباب كثيرة، منها الخشية من رجال الأمن والمخابرات كما حصل في العراق وفي دول عربية أخرى، أو بظهور وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، التي سهلت الاتصال بين الناس وأخرجت الصالونات الثقافية من مقارها الصغيرة إلى عالم كوني، اختلط فيه الحابل بالنابل، وأدى الى ظهور متطفلين كثر، من كتاب وشعراء، ومن جمهور متعدد الصفات.
هل ترى أن الجوائز أثرت على الرواية العربية؟
مهمة الجائزة الرصينة هي البحث عن الإبداع واقتناصه وتثمينه، وعلى المبدع ألا ينشغل كثيرا بالجوائز. لكنه لن يستطع التحرر من شعور الإهمال إذا ما ابتعدت عنه الجائزة طويلاّ!
أظن أن الجائزة ليست ضرورة لابد منها، ولا تقلل من قيمة المبدع اذا لم تنظم الى سيرته الذاتية، لكنها تبدو عرساً ثقافياً يلفت نظر النقاد والقراء اليها شئنا أم أبينا، وهذه احدى محن المبدع في عالمنا العربي.
اقرأ ايضا:
سعاد مصطفى: “إحدى عشرة خيبة” تدور حول مشاعر الحزن والفقد