عائد خصباك: الأدب المصري وصل لأوج ازدهاره في السبعينيات.. والرواية هي من صنعت السينما (حوار)

كان له باع طويل في التعامل مع الادب المصري خاصة وأنه اقام بمصر وسجل ذكرياته عنها في كتاب صدر عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع تحت عنوان ” مائة ليلة وليلة/أيام العراقي في قاهرة نجيب محفوظ”.

هو الأديب العراقي الكبير عائد خصباك والذي التقاه موقع “مباشر 24” وكان هذا الحوار..

 هناك من يقول أن الرواية نالت بعض الشهرة من السينما.. كيف ترى هذا؟

لم تأخذ الرواية شهرتها يوما من السينما، بكل بساطة يمكن القول أن روايات مثل ” الحرب والسلام” لتولستوي و” الأخوة كرامازوف” لدويفسكي، وغيرهما كثير، قد ذاعت شهرتهما  وانتشرتا في روسيا وغير روسيا قبل أن تشيّد أول دار سينما، كذا هو الأمر في الولايات المتحدة و بريطانيا وفرنسا وايطاليا ومصر، وللعلم لم تعتمد السينما في أول أمرها على الروايات المنشورة، جاء هذا في مرحلة لاحقة، لم تمثل أحداث رواية”دكتور زيفاكو “ولا “موبي ديك” ولا ” أحدب نوتردام” ولا الكثير من الروايات الأخرى، الا بعد أن نشرت تلك الروايات وصارت بين أيدي القراء.

ثم أن السينما، في هذا البلد أو ذاك، لم تلاحق كل الروايات المنشورة وعدد كتابها كيرون، هي أخذت ما يلائم الانتاج، كما أن الفيلم كما نعرف غير الرواية، قد يهمل الفيلم مواقف لا تصلح للتمثيل، فالسينما فن وكتابة الرواية فن آخر، وما يصلح هنا لا يصلح هناك.

وفي العالم العربي تحديدا، عرفت روايات إحسان عبد القدوس قبل أن تمثل في السينما، “الوسادة الخالية” و”لا أنام” و” البنات والصيف” و” في بيتنا رجل”، التمثيل في السينما يأتي في مرحلة لاحقة، حدث الأمر أيضا فتحي غانم، ومع روايات نجيب محفوظ، رواية زقاق المدق” ومع أجزاء ثلاثيته المعروفة و مع” ثرثرة فوق النيل”.

نعم، السينما ساعدت على انتشار وذيوع اسم الكاتب، وصار معروفا لمن لم يقرأ الرواية، أو لمن لا يعرف القراءة وقد كانت الأميّة منتشرة بين الناس، وإذا كانت السينما” في مصر” تمر بأزمة انتاج ونصوص، فهذا ليس من شأن الرواية، هذه الأزمة لها أسبابها ودوافعها، والرواية ليس من شأنها أن تعالج أسباب تدني أو هبوط فن آخر. على عكس السينما، نرى الروايات التي تصدر كل عام قد تضاعف عددها مرات ومرات، وهي حاضرة وبعضها يعاد طبعه، أما أن السينما تشكو من افتقارها للنصوص فهذا مجرد ادعاء على المهتمين بالأمر أن يبحثوا عن أسبابه، فلا يعقل أن يكون هذا الكم الهائل من الروايات لا يفرز ما يجده صالحا  للسينما، أما الذي يجعل السينما تذهب الى اعادة انتاج بعض الأفلام غير العربية وقد أخذت لها شهرة واسعة، يعاد انتاجها عربيا ويقو بتمثيلها ممثلون معروفون، فهذا يجعل السينما هذه في مأزق معه عدم ثقة ، الأمر الذي جعل كثيىر من المنتجين يفضلون الذهاب الى انتاج مسلسلات التلفزيون بدل هذا التراجع في مستوى أفلام السينما.

مستقبل الرواية، لا علاقة له بأزمة السينما هذه، واذا كان هناك روايات لها مستوى فني دون ما كانت عليه الرواية  أيام يوسف ادريس ويحيى حقي و فتحي غانم، ومن بعدهم خيري شلبي ومحمد البساطي وابراهيم اصلان وابراهيم عبد المجيد، ويوسف أبو ريّه، فهذا أسبابه لا تعود الى أن السينما لم تستفد من رواياتهم المنشورة.

ما مدى اقتراب الشخصيات التي رسمتها في رواياتك منك، أو اقترابك منها؟

تقترب رواياتي في طريقة عرض أحداثها من السيرة  الذاتية،وطبعا أن الإشكالات النظرية للسيرة الذاتية الروائية يكمن جزء منها في صعوبة الاتفاق على مقومات عامة تصوغ لها وضعاً شكلياً وضمنياً محدداً بين الأجناس الأدبية، وذلك بسبب تداخلها البيّن مع الفن الروائي. فالسيرة الروائية تجمع في نسيجها ودلالاتها عناصر السرد الروائي وأبعاد السيرة الذاتية في آن واحد، إلا أن البعد الطاغي في السيرة الذاتية هو العنصر السيريّ، الذي يكتسب ملامحه من رغبة المؤلف في البوح عن ذاته أولا وكشف ماضيها.

يتمكن القارئ، سواء في عملي الروائي الذي نشر مؤخرا” قات ومانجو”، أو في أعمالي الأخرى مثل “سوق هرج” و” المقهى الأسباني”وغيرهما، ملاحظة مدى انشغالي الشديد بتقليب ذاكرتي، ومواجهة تفاصيلها بكل ما تحمله من أثقال جارحة، ومسرات حقيقية أو متخيلة، وبشكل ربما مبالغ فيه، أشيّد أعمالي الروائية من فعل المواجهات، بعبارة أخرى يمكن القول إني على الدوام  تقودني فكرة “تعرية الذات” للوصول إلى جوهر الحقائق مع من عرفتهم وعايشتهم أو مع من كانوا بعيدين عني. احاول دائما أن أوصل ذلك ببساطة وتلقائية شديدة، تنفي أي نوع من الخجل أو الارتباك أو التردد للجهر بما قد لا يجد قبولا عند الغير، ولعل هذه المعطيات هي أكثر ما يحتاجه فن السيرة الذاتية، النفاذ إلى أعماق الذات، ثم القدرة على صوغ الحقائق، تجد لها قبولا أو لا تجد .

علاقتي مع  شخصياتي تنتهي مع انتهاء كتابة ذلك العمل الروائي بكامله، الأمر هنا ولكي أوضح أكثر، أكبر من الممثل الذي طلب منه أن يجسد شخصية أو يتقمصها لتظهر مطابقة للأصل في فيلم أو مسرحية ، الأمر أكبر من ذلك بالنسبة للكاتب، لأنه لا يجسد شخصية قرأها على الورق بل هو من يكتبها، العلاقة خاصة جدًا مع الشخصيات، لأنه لا يتقمصها كما الممثل، بل هي تظهر له حية قد تشترك في مساعدته لأن ينفَذ إلى أعماقها ،  هو من سيفتح أبواب الحياة لهذه الشخصية ومن سيغلقها أمام تلك، قد تعيش شخصية ما في أعماقي دهرا، لكن لظرف ما تظهر من بين الرماد فلا أستطيع أن أمنع اشتعالها مجددا.

كان بطل روايتي ” معك وبدونك” شخصية حقيقية لكنه غادر الحياة، عشنا معا قبل عقدين من الزمن، لكن في الفترة قبل أن أكتب الرواية بدأت أصحبه وأنا أعيده الى الحياة مجددا ونستعيد الأحداث التي مرت ،

نفس الشئ حصل في روايتي ” قات ومانجو” كما لو أني على يقين أن هناك شخصيات كان لها شأن في حياتي يوما ما، لكنها توارت ، لكنها نهضت من جديد بعدما تهيأت له فرصة النهوض من بين الركام.

تلاحق الشخصيات الواقعية الكاتب، لكنه في النهاية لا يستطيع  مراوغها، فتأخذ لها حضورا، مثل: الشخصية الرئيسة،  التي هي الكاتب، أما بقية الشخصيات فقد كانت تقوم برسم الأحداث حوله وتطور من المشهد، ولأن الكتابة ستنهي مساحة احتلال الشخصيات بداخل الكاتب، بعد أن تتجسد على الورق، لذا يسرد الكاتب الأحداث كما وقعت حقيقة، فيضعها على الورق، وذلك نوع من التطهير، أنا أؤمن أن كل الشخصيات التي تفاعلتُ معها تحمل في طياتها بعض ما يخفف عني أو يواجهني بما يزيد من متاعبي، وأنها ربما تغيّر من مصيري، لذا أسأل كل شخصية قبل أن تأخذ حيزها: من ألقى بك دون طريقي؟ ولكن لا ينفع السؤال هذا مع من كان جزءا من سيرتي الذاتية.   لهذا لا أستبعد أن تقرأ هذه الرواية وروايات غيرها سارت على نفس النهج على أنها سيرة حياة الكاتب الذاتية.

أخبرني بعض الأصدقاء: أنهم وجدوا أنفسهم في بعض شخصيات رواياتي” يا دنيا يا غرامي” مثلا،حتى لو أني لم أذكر أسماءهم الحقيقية، فلا أعارضهم لأنهم فعلا ظهروا بما هم عليه، وأثناء الكتابة لا أستبعد أن تراني أتكلم مع الشخصية التي على الورق كما لو أنها حاضرة تؤدي أفعالها تلك الساعة.

في مواقف أخرى أحاول، دائمًا، أن أبعد الشخصيات عن المساحة التي أتحرك بها، لأتيح لها فرصة التصرف وفقًا لأهوائهم، وظروفهم الاجتماعية، لتتمكن من التصرف مستقلة عن ما يملى عليها من الغير، شخصيات أخرى ترفض هي نفسها الاستقلال عن الكاتب، فتصير تابعا له،تأكل وتشرب وتتصرف وقتما يشاء الكاتب. لكن هذه شخصية هزيلة، سريعا ما يتم التخلص منها.

قد تتطور العلاقة بشكل مختلف حين يعيد الروائي قراءة شخصياته، فيكتشف أن إحساسه أصبح مختلفا عما كان عليه،  اختلاط مشاعر الروائي تجاه الشخصيات هين اذا قسناه بما يمكن أن يحدث عندما يختلط الواقع بالخيال، هل الشخصيات هي واقع حقيقي أم من نسج الخيال! كما حدث مع شخصية ” بطّة” في روايتي ” يا دنيا يا غرامي”.

أنت أديب عراقي ذهبت لمصر كثيرًا.. إلى أي مدى ساهمت مصر في عثورك لما تبحث عنه؟

لقد سجلت ذلك في كتابي” مائة ليلة وليلة/أيام العراقي في قاهرة نجيب محفوظ” وكنت قد أقمت فيها منتصف سبعينات القرن الماضي،  وقتها وصل الأدب في مصر أوج ازدهاره، في مختلف فنون الكتابة، رواية وقصة ومسرح وغير ذلك، وكان لي نصيب أن أكون قريبا من ممن كانوا يتصدرون المشهد الثقافي آنذاك، ليس كتابي هذا مجرد سيرة ذاتية اعتنت كثيرا بالهامش وابتعدت كثيرا عن المتن، الهامش، وأعني الأحداث الجانبية أحيانا يكون أثرها أقوى كثيرا من المتن ، وشهادات من درسوا الكتاب أكدت ما جئت اليه..

يرى البعض أن الدهشة تكون أعظم، في متابعة الأحداث الكبرى،  لكن هذا لا يكون دائما، ربما الأحداث الصغيرة، قادرة ان تكشف أشياء أعظم من الأحداث الكبيرة، وتحيل الى معان أدق،وهذا ما كان عليه الأمر عندما كتبت مائة حادثة وحادثة مع  نجيب محفوظ ويحيى الطاهر عبد الله وأمل دنقل ومحمد البساطي وخيري شلبي وغالي شكري وابراهيم أصلان وابراهيم عبد المجيد، وغيرهم أسماء كثيرة .

الحكايات في هذه السيرة  ليست تاريخية، رغم أنها وقعت في زمن مضى، هي ليست مقيدة بزمنها، وبدونه لا قيمة لها ، كما هي الأحداث التي نقرأها في التاريخ، الحكاية الواحدة في هذه السيرة، تخلّف انطباعا بأنها يمكن أن تحدث في أي وقت لاحق مع أناس آخرين، لذلك هي لا يعنيها أن تصور تلك الفترة بقدر ما يهمها أنها يمكن أن تقع في أي وقت، لو تهيأ لها الظرف والأشخاص والمكان المناسب.

عندما أراجع ما مرّ بي، أثناء تلك الفترة، أشعر أن الأحداث والتجارب التي عشتها، أو مرَّت عليَّ، وأفكاري وأفكار من عشت معهم، لا ينبغي أن أحتفظ بها ، فتضيع، لذلك سجلتها.

السيرة هذه تعتمد بالدرجة الأولى على أحداث، فيبدو الفصل كما لو أنه مستقل بنفسه، أو منفصل عما سبقه وما يليه، قد يكون ذلك أحيانا، لكن الأحداث بمجموعها ستكون صورة، يتقاطع بها ما هو فني واجتماعي وسياسي.

كنا معا، نتناقش في ما نكتبه ويكتبه غيرنا ونتخاصم لأجل معتقداتنا: ابراهيم اصلان يحيى الطاهر عبد الله، امل دنقل، وغالي شكري، و  ابراهيم فتحي، وفاروق عبد القادر، وسليمان فياض، وسامي خشبه.

كم من الوقائع التي حدثت، كانت امرا عاديا وقتها، لكل من هذه الأسماء أسلوبه في التعامل معها، لان كل منهم مختلف عن الاخر.

في رأيك.. هل تجد في القصة القصيرة متسعا كبيرا للتعبير؟

قد أكون متحمسا له فأقول: ليس هناك أكثر من القصة القصيرة قدرة على التعبير المكثف ولكن يحدث أحيانا أن القصة القصيرة لاتحتمل الصراعات الكبرى و الشخصيات المتعددة، وهذا ما يجعل الاتساع هذا الى أن يكون في رواية ، كثير من الكتاب، تحولت بعض قصصهم الى رواية وأنا واحد منهم. للعلم أنا بدأت بالقصة القصيرة وقد ذكرت هذا، بمجموعتي القصصية” الموقعة”، وقد صدر لي قبل عام مجموعة قصص بعنوان” شرفة زينب الجزار” وكانت الكتاب الورقي الذي رافق مجلة “ميريت” الألكترونية، وبين الكتاب الأول والأخير أربع مجاميع قصصية.