زكية فتوة سوق الخضار.. هكذا قهرت الرجال وفرضت الضرائب عليهم
كانت مصر قديما مليئة بالفتوات، وذكرهم الكاتب الكبير نجيب محفوظ في أكثر من رواية، ولكن العجيب هو أن تكون هناك فتواية من النساء مثل توحة وزكية وغيرهن، وفي هذا التقرير نستعرض تاريخ الفتوة زكية فتوة سوق الخضار.
امرأة بدينة
في عام 1915 فى سوق الخضار وحى المناصرة كان يرى السائر امرأة بدينة الجسد واسعة العينين مفتولة العضلات قصيرة القامة شعثاء الرأس، تروح وتجئ فى الشوارع والحارات مرهوبة الجانب مهيبة الخطوات تمشى ذات اليمين وذات الشمال فى تؤدة ووقار ككل ذى جانب زعامة مرموقة فإذا لقيها واحد من الجدعان من ولاد الحتة كان يقبل عليها ويقبل يدها، تتهادى ككسوة المحمل فتبتدره بصوتها الأجش مسلمة ثم ترفع يدها الغليظة فتضرب بها كفه ضربة قوية وتهزه هزا عنيفا وكانت هذه هي تحية الفتوات مضافا إليها عبارات من نوعية، “ازيك يا مجدع، فينك يا واد”، هذه هى زكية التى كانت فتواية سوق الخضار وحى المناصرة”.
يقدمون لها الضرئب
ليس فى أهل الحى من ينكر خطرها أو يجهل قدرها فهى كانت المرأة الشديدة البأس القوية المراس السليطة اللسان الجبارة العاتية التى لا يقوى رجل مهما بلغ من القوة والبسالة أن يقف فى سبيلها أو يعترض أوامرها، فالعربجية والبياعون على اختلاف طبقاتهم لابد أن يقدم لها كل منهم ضريبة معلومة يدفعها صاغرا وإلا فالويل له والهلاك ينتظره.
تضرب عسكرى بالروسية
يقول أحدهم وكان صحفيًا يريد إجراء حوار معها:” لقيتها وكان يوما من أدق أيامى الصحفية وكان صديقى الدكتور الذى عرفها فى السجن واسطة التعارف بيننا وأنزويت فى قهوة بلدية أنتظر قدومها فلم تحضر وسألت صاحب القهوة عن سبب بأخرها بأنها راحت القسم علشان خناقة امبارح
فقلت له وإيه خناقة امبارح دى كمان يامعلم ؟
فقال لا مفيش دى خناقة بسيطة إمبارح مع عسكرى بالنقطة كانت ضربته روسيتين ها هى قادمة ويشير صاحب القهوة إلى مقدمها
قالت أهلا وسهلا حبا يا أمير ولا مؤاخذة كنت فى القسم واتأخرت عليك شوية
قلت أهلا وسهلا بك ياست زكية وإزيك وسلامات
قالت رينا يطول عمرك قى يااخويا إيه حكاية الجونان دى اللى انتوا عاوزينها من
قلت مفيش حاجة ياستى دى مسألة بسيطة بس احنا عاوزين ناخد صورتك علشان ننشرها للناس يشوفوها ونكتب عنك إنك جدعة ولا حدش يقدر يدوس لك على طرف
قالت معلوم (بتضخيم الميم ) مين يقد هنا يدوس لى على طرف والنبى كانت عينه دى أطلعها على صوابعى
عندئذ رأيت المسافة بين أصابعها وعينى ليست بعيدة وأننى إذا لم أستعمل معها كل ما أحفظ من العبارات البلدية الرقيقة فسوف أعود أنا الآخر بعين واحدة ورأس مهشمة فابتسمت وقلت لها
ـ أهى كدة الجدعنه وأهو ده اللى احنا حنقوله عنك
قالت: لكن يا إفندى بعدين الحكومة تقرأ الكلام ده وتتغاظ بعدين تخسرلى القضايا بتاعتى
قلت : لا أبدا مين يقدر يخسرلك قضية ومع ذلك إحنا نشرنا صورة فتوة سيدنا الحسين وكتبنا عنه كتابة على الكيف
قالت مين ؟ فهمى الفيشاوى ؟
قلت أمال . كتبنا عن فهمى ونشرنا صورته وطلعت حلوة جدا
قالت أيوه فهمى واد مجدع أعرفه من زمان
قلت قولى لى ياست زكية أنت تعرفى طبعا إن السجن للجدعان فإنت كام مرة اتسجنتى ؟
قالت ما تعدش وإيه يعنى السجن الواحدة مادام حافظة مقامها وتشرب من دم اللى يقول لها بم خلاص ميهمهاش من سجن ولا غيره طيب أو العرابى فتوة الحسينية سجنوه لكن يعنى تفتكر السجن يهمه ؟
قلت السجن يهمه ازاى امال فتوة يعنى إيه لكن قولى لى ياست زكية أنت اليومين دول عندك قضايا تانية ؟
قضيتين
قالت:” لا دول قضيتين تلاتة وكلها حكايات بسيطة كنت عورت واحد عسكرى حي يعمل واد جدع رحت مخرشماه وواد تانى عربجى عاوز يزوغ منى كدة فى سألة بينى وبينه وآخر نزلته من على العربية وسيحت دمه علشان ميعملش ويايا أمور الغفلة دى والحكاية التالتة ياسيدى والله على رأى المثل ما ينوب المخل إلا تقطيع هدومة ناس فى خناقة وحبيت أخلصهم بصيت لقيت فيه واد كدة مش عاوز يمتثل رحت خابطاه روسية نزل يرف”.
وأرادت أن أتلطف فى الحديث مع محدثتى الفاضلة فأطلب منها أن ترافقنى إلى أقرب مصور لأخذ صورتها فقبلت
وقالت:” بس من فضلك لما أبعت الواد يجيب البدلة السودة”.
ومضينا إلى المصور فلم يخف القمر فقد تلقاها هو الآخر بما يليق بمقامها من الإجلال والتعظيم ودار بينهما حديث طويل دل على سابق معرفة قديمة ثم عادت إليه فى اليوم التالى تطلب منه بقيمة النص دستة لتزين به غرفتها كما اتفقنا لكنها قبل أن تنصرف من عنده التفتت إليه وقالت:” اسمع ياخواجة وحياة دين النبى محمد تنكون الصورة اللى عملتها دى حتوديها للحكومة أنت بتوع الجرنان إلا يكون آخر عمرك”.
الخواجة
وارتعدت فرائص الخواجة المسكين فأقسم لها أغلظ الأيمان بالتوارة والإنجيل أنه لا يعرف شيئا وأنه يجهل حكاية الجرنال ولا يدرى من أمر الصورة أكثر مما يدرى عن عمله اليومى لكل أفراد الجمهور على السواء
ثم مررت بالمصور أتناول منه الصور المطلوبة للجريدة فحدثنى المسكين فى وجل وفزع عما سمعه من عبارات التهديد والوعيد وهدأت روعه وأفهمته ألا خوف عليه ولا على سواه.
كانت تجلس بمحل سجائر
ومما تلذ معرفته عن صاحبة هذا الحديث الطريف أنها كانت تجلس أكثر يومها بمحل بائع سجائر وتطلب التعميرة من القهوة البلدية المجاورة للمحل ويمر بها أهل الحى فى غدوهم ورواحهم فيحيونها تحية الإكبار والإجلال والويل والهلاك لمن تحدثه نفسه بأن يتغاضى عن مكانها أو يغفل تقديم التحية إليها
فإذا أقبل الليل طافت بمنطقة نفوذها وعرجت على سوق الخضار فى طريقها ثم ذهبت إلى الحارة فجلست أمام منزلها لتمضى بقية السهرة مع جاراتها وجيرانها وجلست منهم جميعا مجلس الزعامة فلا يخالفها فيما تقول أحد ولا يعترض إرادتها معترض، حسبما ذكر المؤلف سيد صادق عبد الفتاح في كتابه ” تاريخ فتوات مصر ومعاركهم الدامية”.