ريتشارد بيرتون: تنكر في زي درويشي فارسي ليصف مشهد الحجاج على عرفة

 

حكايات المستشرقين عن مصر لا ينتهي، فقد جاء إلى مصر العشرات من المستشرقين يكتبون عنها منذ قدوم الحملة الفرنسية، ومن بين هؤلاء ريتشارد بيرتون الإنجليزي الأصل الأيرلندي المولد.

والذي نشر تفاصيل حكايته عندما جاء إلى مصر وذهب لأداء فريضة الحج الكاتب حمدى البطران في كتابه “حكايات عابرة” الذي نشر حديثًا.

وكشف الكتاب عن أدق التفاصيل في حياته، ريتشارد بيرتون من مواليد ولد 1821 ميلادية، زار مصر والحجاز عام 1853 متنكرًا في زي رجل دين أفغاني، وانضم لقافلة مصرية قاصدة الحجاز في رحلة شاقة، قضى بيرتون في المدينة شهرًا كاملًا، متظاهرًا بأنه مسلم في زي فارسي وتسمي بإسم إسلامي هو الشيخ عبد الله.

هدف ريتشارد بيرتون من زيارة الأماكن المقدسة

ويقول في مقدمة كتابة أنه بدأ بزيارة الأماكن المقدسة للمسلمين، أو بلاد الحرمين الشريفين التي يدافع عنها المسلمون بحمية، ويمنعون غير المسلمين من دخولها، كان الهدف الأساسي الذي راوده هو عبور الجانب الغير معروف من شبه الجزيرة العربية في خط مباشر من المدينة المنورة إلى مسقط، أو ما يعرف بالربع الخالي.

شغل بيرتون نفسه فيه بزيارة معالم المدينة والكتابة عنها، ولقد أضاف بكتاباته تلك الكثير لما سبق أن سجله الرحالة السويسري بوركهاردت، والذي حــال المرض بينــه وبين زيــارة كثير من معالم المدينــة وما حولها من آثار موغلة في القدم.

تعرض بيرتون في كتابه عن رحلته إلى الحجاز، لمناسك الحج وكتب عنها باحترام كامل، كما كتب عن التفاف المسلمين حول الكعبة.

لم تكن أهداف رحلة بيرتون الكتابة عن الشعائر الإسلامية، ولكنه كرحالة ومستكشف وجد نفسه يتحرك ويعيش وسط المسلمين بعد أصبح مسلما ظاهريًا، فراح يكتب عن كل ما شاهده.

المخاطر التي تعرض لها ريتشارد بيرتون في مكة

كانت رحلة بيرتون محفوفة بالمخاطر، فهو يعرف أنه ربما يقتل، لو تم اكتشاف أنه غير مسلم، فكان عليه أن يتدرب تدريبا شاقا على عادات وتقاليد المسلمين الحجازيين، وسكان جزيرة العرب في معيشتهم ونومهم ومأكلهم ومشربهم. فعلي سبيل المثال، لاحظ بيرتون أن المسلم عندما يشرب الماء، لا يعب منه مباشرة.

طقوس شرب الماء عند المسلمين

عَدَّدَ بيرتون خمسة امور غير مألوفة بالنسبة للأوروبيين عند شرب الماء، فالمسلم يقبض على كوب الماء بشدة، ويقول بسم الله الرحمن الرحيم، قبل أن يصل الماء إلى شفتيه، ثم يشرب الماء ويبتلعه، وبعد أن ينتهي من الشرب يتجشأ. ويحمد الله، ويبدو راضيا.

وهناك طقوس يراعيها المسلم عندما يكون معه رفيق في السفر، الذي سرعان ما يقول له هنيئا. كما كان على بيرتون أن يتدرب على استخدام يده اليمني، في تناول الطعام والشرب وقضاء حوائجه. على خلاف الأوربيين، فهم يتدربون على استخدام كلتا اليدين، كانت تلك بعض الأمور الهينة والتي كان يجب عليه أن يراعيها.

سعيد شيمي يكشف سبب تعرض سناء جميل لعدوى جلدية

بدا بريتشارد بيرتون رحلته إلى الأراضي المقدسة متقمصا دور درويش متجول يحمل في وسطه كمية من الأعشاب والأدوية.

تفاصيل رحلة ريتشارد بيرتون إلى مصر

وصل بيرتون إلى الإسكندرية في زي درويش فارسي، وأصبح اسمه عبد، ومنها إلى القاهرة ثم واصل رحلته إلى السويس، ومنها وصل إلى جدة، ومنها إلى المدينة المنورة ثم رحل إلى مكة في يوم 13 سبتمبر 1853(9 ذي الحجة) ويقول ” بشرنا صوت قذيفة مدفع عالية بحلول يوم عرفات، ونبهتنا القذيفة للنهوض استعدادا لأداء شعائر هذا اليوم “.

ويقول الشيخ عبد الله (بيرتون) أنه بعد أن توضأ وصلي، اصطحب أحد أبناء مكة كان قد قابله في مصر، لرؤية المواضع ذوات القداسة فوق جبل الرحمة، في البداية وصل إلى مكان مرتفع ناحية الجنوب الشرقي، على مدي مائة ياردة من الجبل.

ويسمي مسجد الصخرة، نسبة إلى صخرتين مكورتين وقف عليهما رسول صلي الله عليه وسلم لترديد التلبية، ولم يري بيرتون سوي سور حجري منخفض مطلي باللون الأبيض يحيط بمساحة صغيرة مقسمة إلى قسمين أحدهما للرجال والآخر للنساء.

شاهد بيرتون زحاما من الحجاج والحراس، والذين يقدمون حُصْر (جمع حَصِير) وسجاجيد للحجاج بمقابل نقدي. يقول بيرتون ” وبعد أن صلينا ركعتين وتلونا أدعية طويلة عند المحراب، دلفنا إلى القسم الداخلي، وجلسنا على صخرة ورحنا نردد التلبية، ثم شققنا طريقنا عبر كثير من العوائق من خيام وصخور، وصعدنا إلى درجات عريضة وعرة، تنتهي إلى الوجه الجنوبي للتل الصخري (جبل الرحمة) “.

«قتل طفلا فوقع أسير الحزن».. تفاصيل أكبر أزمة في حياة رشدي أباظة

يقول بيرتون أن العرب الأكثر بداوة (يقصد الأصوليين) يقولون أن الوقوف يجب أن يكون فوق الجبل، أما الأكثر تمدنا فلا يفعلون ذلك، ويقولون أن عرفة كلها موقف، وقد أحصي بيرتون 66 درجة مصنوعة من الحجر كدرجات السلم أثناء الصعود، وأن الدرجات تضيق كلما ازداد الصعود.، ويقول أن الخطيب وقف في الموقف ذاته الذي وقف فيه سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم، ثم قام بيرتون بصلاة ركعتين.

حكايات ريتشارد على جبل عرفات

صعد بيرتون جبل الرحمة، مع الحجاج، بصعوبة متزايدة، حتى وصل إلى قمة الجبل، وهناك شاهد منبسط ضخم به محراب، ونصب عمودي، كالمسلة من حجارة جراتينية، ومطلي بطلاء أبيض، ويسمي مقام آدم، وصلي هناك وسط الزحام ركعتين، ثم هبط من جديد، وفي السهل شاهد المحمل المصري، والمحمل الشامي، أثناء إلقاء خطبة عرفات، وعندما هبط السور شاهد ينبوع الماء الذي يمد عرفات بالماء، وهو ينبجس من بين الصخور، وماؤه نقي تماما كماء الحجاز بوجه عام.

ريتشارد يصف مشهد الحجاج

يصف بيرتون مشهد الحجاج فيقول: إن الجميع كان في حالة استثارة، والمدافع كانت تطلق القذائف دون توقف، وراكبوا الجمال والخيول يتحركون هنا وهناك، دون هدف واضح، حتى النساء والأطفال يقفون ويسيرون وهم في غاية الاضطراب.

ويقول بيرتون:” أنه توضأ وصلي الظهر, واستحم استعدادا للوقوف بعرفات , ومن الظهر فصاعدا بدأت تتزايد أصوات تلبية الحشود ودعواتها , وبدأت جموع الحجاج تحتشد في كل اتجاه, وأعلنت طلقة مدفع موعد صلاة العصر وسمع صوت البروجي المصاحب لموكب الشريف, وهو يشق طريقه لجبل الرحمة.

وشاهد بيرتون جماعة من حرس الشريف حاكم مكة وقتها, وهم يقومون بتوسيع الطريق لموكبه, وتبعتهم خيالة الصحراء, حاملين رماحا طويلة وأخري قصارا , وخلفهم خيول الشريف, وكانت كلها من سلالات ممتازة, وكان أحدها نجديا ذا لون بني غامق, وبه شامات بيض , وقد اعتبره بيرتون نموذجا كاملا للحصان العربي الأصيل, وسرعان ما جاء الشريف راكبا في مقدمة أسرته وحاشيته مصحوبا بثلاث رايات خضر.

وكان الشريف يرتدي ملابس الإحرام البسيطة, وكان عاري الرأس راكبا بغلة , وليس ما يدل على مكانته سوي مظلة كبيرة مشغولة بخيوط ذهبية , وأخري خضراء يظلله بها أحد العبيد .

تزاحم الحجاج عند سفح الجبل، وشقت التلبية العظيمة الصمت المهيب، وتوقف الحجاج عن تحريك أرديتهم فوق رؤوسهم، إشارة إلى أن الخطيب قد بدأ خطبته (خطبة الوقفة).

وقال بيرتون انه أمكنه تمييز هيئة الخطيب وهو يخطب، وتمكن من تحديد ملامح رجل عجوز، راكبا فوق جمل، ولكنه المسافة البعيدة حالت دون سماع الخطبة.

وأن الخطبة استغرقت ثلاث ساعات ., واستمرت حتي المغرب وبعدها بدأ الحجاج العودة, ليكونوا السباقين للخروج من عرفات (النفرة )، وأختلط الحابل بالنابل , وماجت عرفات كالبحر, يعلوه الزبد الأبيض , وراح الجميع يهطون من فوق جبل الرحمة, وهم يلبون ” لبيك اللهم لبيك ” في صوت مرتفع كالهدير.

واتخذ الجميع طريقهم صوب مني , يقول بيرتون انه شاهد المشهد الذي يدل على هذه المرحلة من المشاعر المقدسة، ولما حل الغروب نزعت الأوتاد, وانتشرت الجمال، نشبت بعض المعارك بالعصي والأسلحة الأخرى، وتجد هنا امرأة وهنا طفلا، وتري دابة هائمة ضاعت من صاحبها، وباختصار فإن المشهد يمثل اضطرابا غامضا.

كان هذا هو وصف ريتشارد بيرتون لمشهد عرفات يوم 13 سبتمبر 1853  ولا شك أن الأمر أختلف الآن كثيرا عما شاهدة بيرتون.

بعد رحلته إلى الحجاز ووصوله إلى مسقط عبر البحر الحمر في طريقة إلى أفريقيا ساهم في اكتشاف بحيرة فيكتوريا ومنابع النيل، وكتب عن رحلته إلى الحجاز كتابه الشهير ” رحلة بيرتون ” وترجمه إلى اللغة العربية الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ عن الإنجليزية عام 1995.

اقرأ ايضا:

«جابر بن حيان وذو النون المصري».. هؤلاء حاولوا فك رموز حجر رشيد قبل شامبليون