د. عزة إبراهيم تكتب: أبية فريد وجيل السبعينات

 

لكي أرسم صورة واضحة لأبية فريد تتبعت كل الخيوط التي يمكن أن تصلني بها وبزمنها وفترة حياتها القصيرة، وكان كنز الصور والذكريات التي أتاحها بسخاء ونبل وصبر مدير التصوير الكبير سعيد شيمي هو الخيط الأول الذي جذبني لاقتفاء أثرها، ووضعني في السياق الزمني الذي عاشت في ظله أبية فريد، ثم ما أطلعني

عليه من أرشيفها المنشور في الصحف والمجلات؛ سواء عن تفوقها الدراسي ونبوغها في معهد السينما، أو عن تفاصيل حياتها وموتها، كذلك قرأت بشغف مقالاتها في مطبوعات نادي سينماالقاهرة ونشرة جمعية الفيلم، كما شاهدت الفيلم التسجيلي الذي أخرجته إيناس الشناوي عنها، كل هذه كانت مصادر مهمة لي

لمعرفة كيف عاشت رحلتها القصيرة في الحياة، وكذلك أضاف لي حواري مع مدير التصوير الكبير محسن أحمد الذي كان أحد طلابها في معهد السينما، أبعادا أخرى عن علاقتها بطلابها، وعن طبيعة شخصيتها كأستاذة في المعهد العالي للسينما، وكذلك كان حواري مع المخرجة فريال كامل التي تعاونت معها أبية فريد في

تصوير بعض أفلامها التسجيلية مدخًلا ّ مهما للتعرف على أبعادأخرى في شخصيتها، خاصةً لأنه كانت هناك علاقةٌ قوية ربطتهما على المستوى الإنساني. وكذلك كان حواري مع المونتيرة تماضر نجيب التي كانت معيدةً في قسم المونتاج في المعهد، وعملت مع أبية في فيلم (الإنسان) مصدرا للتعرف على جانب آخر في

شخصيتها، وكذلك حواري مع د. علي الغزولي الذي شاركته في تصوير بعض الأعمال حينما كان مديرا للتصوير.

 

تنتمي أبية فريد إلى جيل السبعينات في السينما المصرية، وتُعتـَبَر إحدى ومضات هذا الجيل الذي عاش أحداثًا هامة على المستوى السياسي والاجتماعي.

وقد انعكست هذه الأحداث بالطبع على السينما وصناعتها وصناعها، كما تنتمي أيضا إلى بدايات سينما الثمانينات التي أفرزت جيًلا ِّ متمرًدا حاول صياغة السينما في تلك الفترة بملامح َ جديدة تشبه واقعه وتعبر عن نبضه؛ فهي واحدة من أبناء هذا الجيل لكن لم يمهلها القدر لتكمل ما بدأته.

فقد رحلت عن عالمنا في 3مارس عام 1982عاش هذا الجيل الذي انتمت إليه أبية فريد شبابه في الفترة التي شهدت نكسة 1967وحرب الاستنزاف وعبور أكتوبر،1973 وساهمت هي معه في صياغة إرهاصات سينما هذه المرحلة التي وصفها الناقد الراحل سمير فريد بأنها مرحلة الواقعية الجديدة في السينما المصرية.

كذلك يمكننا أن نحاول فهم تجربتها من خلال انتمائها إلى الجيل الخامس في تاريخ التصوير السينمائي المصري، وهو الجيل الذي درس في المعاهد والكليات الجامعية المتخصصة بداية من عام 1959بعد افتتاح معهد السينما في 24أكتوبر 1959

وتخرجت أول دفعة فيه عام ،1963 وهذا الجيل سبقته أربعة أجيال رصدها جميعا سعيد شيمي في كتابه (تاريخ التصوير السينمائي في مصر من عام 1897إلى عام )1996 والذي صدر عام .1997 بدأت بالجيل الذي شهد أول ٍ تجربة للتصوير السينمائي تحت سماء مصر، على يد مصوٍر أرسلته شركة أفلام لوميير عام،1897 ثم تلاها جيل الرواد الذي استمد خبرتَه من مدرسة الإسكندرية

وبعدها من مدرسة ستوديو مصر، ثم جيل العمالقة الذي تخلّص من تأثير الفوتوغرافيا على الصورة السينمائية، وتخلّص كذلك من سيطرة الأجانب والمتمصرين على مجال التصوير السينمائي، وأرسى مفاهيم وأسس جمال الصورة السينمائية، ثم الجيل الرابع الذي تتلمذ على يد جيل العمالقة.

ثم جاء جيل رمسيس مرزوق ومحسن نصر وعصام فريد وسمير فرج وأبية فريد وسعيد شيمي؛ الذي شكل حلقةً جديدة في سلسلة المصورين السينمائيين العظام الذين أطلق عليهم سعيد شيمي في كتابه (عدسة القلم وحبر الكاميرا في الثقافة السينمائية) رسل الجمال في السينما.

كذلك كانت الكتب الثلاثة التي ضمت خطابات محمد خان  إلى سعيد شيمي خاصة في الجزءين الثاني والثالث مصدرا مهما في فهم الكثير عن حياة وتطلعات وأحلام هذا الجيل الذي انتمت إليه أبية فريد (الحبوبة) كما أطلق عليها محمد خان في تلك الخطابات.

وهنا أود أن أشير إلى ما حدث لكثيرين من أبناء هذا الجيل بعيدا عن السينما، ولكن ما أصابهم انعك َس بالطبع على السينما بصورة أو بأخرى، فبعض أبناء هذا الجيل هم الذين بدأوا تغريبة السفر إلى بلاد وصحاري النفط، وعاشوا تلك التغريبة القاسية بكل ما فيها من تأثيرات سلبية على المجتمع المصري، فقد عاد معظمهم  بأفكار رجعية وجافة ومتصلبة ومضادة للمرأة وللفن وللسينما ومعادية للتصوير وللصورة بكل أشكالها؛ سواء سينمائية أو فوتوغرافية، فقد تنصل كثير من العائدين من حضارة الفراعنة، وبتروا تاريخها من المناهج الدراسية وناصبوا العداء لحضارة كانت قائمة بالأساس على النحت والرسم والموسيقى والفن، ومنها تعلمت الدنيا كلها.

وعلى يد هؤلاء مع الأسف تصحرت الكثير من الأفكار والقيم الفنية والإنسانية النابعة من شخصية وهوية مصر الحقيقية، وبدأ كثيرون منهم في التخلص من ألبومات صورهم الشخصية المتحررة والعادية قبل هذا الغزو والتجريف لأفكارهم.

أصبح معظمهم يشعرون بحرج من صور أمهاتهم وجداتهم العظيمات سافرات الوجوه اللاتي خلعن براقع المحتلين الأتراك في إطار مشاركتهن في ثورة من أعظم ثورات العصر الحديث وهي ثورة 1919أزال هؤلاء هذه الصور التي هي جزء من ذاكرة ووجدان الأمة المصرية وتخلصوا منها.

إما ببيعها لأسواق الروبابيكيا، أو بحرقها كنوع من التطهير في لوثة معتقداتهم الجديدة.

وقد سبق لي الكتابة عن تلك القضية في العدد التاسع (ديسمبر )2016من مجلة (الفيلم) التي أكتب فيها والتي تصدر عن نادي سينما الجزويت.

في وسط هذا الخراب الإنساني كان الأستاذ سعيد شيمي واحدا من مؤرخي الصورة العظام، فهو عن جدارة جبرتي السينما المصرية، الذي وثّق وحفظ للأجيال التالية الكثير من تاريخ فن السينما وفن الصورة في كتبه التي وصلت إلى أكثر من 33كتابًا.

ولطالما فتننا دائما بحكاياته عن سندرة الكنبة، التي يحدثنا عنها في كل لقاءاته الرائعة التي ينظمها ويدعونا إليها في مقاهي وسط المدينة ونقابة التشكيليين بساحة الأوبرا، ليهدينا كتبه الجديدة التي ننتظرها بلهفة.

تلك الكنبة التي حولها إلى سينماتيك وأرشيف يحفظ فيه كل ما جمعه من تاريخ السينما على مدار سنوات طويلة، فقد جمع فيها كل ما يتآكل مع الأسف من ذاكرة السينما المصرية المهددة بالفقدان.

وكنت كبقية الأصدقاء ننتظر بشغف لنعرف الجديد الذي سيخرج لنا به من تلك الخبيئة السينمائية العظيمة، وسعدت أيّما سعادة وهو يتيح لي من داخل كنوز هذه السندرة خبيئة أبية فريد، التي فتحت عيني  وقلبي على عصر بأكمله، وعلى حياة إنسانية ملهمة لهذه اللؤلؤة والكنز الإنساني التي لا يعرفها الكثيرون.

ومن خلال هذه الخبيئة وضع يدي على أهمية كل ما يدل عليه تكوين أبية فريد الإنساني وتاريخها؛ الذي رأيته ملهما ليس فقط في مجال السينما أو التصوير أو المجال النسوي، ولكن أيضا في مسيرة تطور المرأة المصرية بشكل عام.

أتاح لي كل ألبومات صورها الرائعة، وكشاكيل محاضراتها الأنيقة التي تنم عن مدى جديتها واجتهادها في الدراسة بمعهد السينما.

اطلعت أيضا على مقالاتها المهمة المنشورة في نشرة جمعية الفيلم، وكذلك كل ما كتبته الصحف والمجلات سواء عن نبوغها واختيارها الاستثنائي مجال التصوير السينمائي، أو عن الحزن الذي خيم على القلوب بعد رحيلها، وكل الذكريات الرائعة التي امتدت بينهما من بداية السنة الدراسية الأولى لهما بالمعهد وحتى رحيلها المفاجئ والقاسي.

المقال من كتاب “أثر الفراشة” للكاتبة والناقد عزة إبراهيم، الذي تحدثت فيه الناقدة عزة إبراهيم عن الراحلة أبية فريد أول مدير تصوير في السينما المصرية..