“ثبات انفعالي .. أماني عطا الله”.. رؤية نقدية للدكتور أحمد فرحات

ليس من قبيل المصادفة أن يكون الفصل الأول لرواية ثبات انفعالي للروائية أماني عطا الله هو عنوان الفصل الأخير منها، فكلاهما يحمل عنوان”الشبيهة” و”شبيهتي”. للتأكيد على فكرة الرواية، وتناسل أحداثها بصورة سردية متدفقة. فتقوم الرواية على فكرة الشبيه حيث تشبه “حنان” “حنين” في الصياغة اللغوية، وفي بعض الصفات الجسدية، مما يجعلها تتعلق بـ”شهاب” رجل غامض تشوبه لوثة من حين لآخر، مما أحدث له تشويشا في عقليته، وعاش صراعا من نوع غريب على مساحة غالبية الفصول.

وتدور الأحداث عبر استخدام الإثارة والتشويق منذ المشهد الأول، وهي عادة الروايات البوليسية ذات الأثر الجاذب للقارئ. وتنتقل الأحداث عبر مساحة المكان بمهارة فائقة، إذ تنتقل الأحداث من وسط القاهرة إلى الصعيد ثم الإسكندرية، في الأماكن الشعبية والمهجورة، الخالية من السكان، والأماكن الصحراوية ذات الطبيعة القاسية.

ويلعب المكان دورا مهما حيث وظفته الروائية عطا الله بمهارة عالية، فكل مكان في العمل يساعد على صنع الحدث وتناميه، فالصحراء تضفي على المكان لمسة الرعب والخشونة، والأماكن الشعبية تضفي على المكان لمسة ذات طابع شعبوي آهل بالسكان. وقد أجادت الروائية توظيف المكان؛ فالمكان عنصر جوهري في الأعمال الإبداعية جميعا. فإلى جانب وظائف المكان الفنية يشير الدارسون إلى النقد النفسي للمكان داخل النص، وأن له أبعادا اجتماعية وتاريخية وعقائدية التي ترتبط بالمكان ولا تفارقه، والمكان متناه، يحاكي موضوعا لا متناهيا هو العالم الخارجي الذي يتجاوز حدود العمل الفني.

وقد استخدمت عطا الله المكان باعتباره وسيلة لغوية تستعمل للتعبير عن أجواء وطقوس معينة تختلف من منطقة لأخرى،طبقا لطبيعة المكان وعادات أهله. وكانت عطا الله تكتفي بالوصف الداخلي للمكان أكثر من الوصف الخارجي له، باعتباره مسرحا للحدث الدرامي نفسه. فتأمل كيف رسمت الروائية تفاصيل المكان داخليا، وكيف ساعدها ذلك على تنامي الحدث وتفاعله مع المكان بأسلوب شائق مثير في آن معا:  “أشاحت بوجهها عنه فدفعها كي تصعد الدرج أمامه إلى الطابق العلوي.. أربع غرف مغلقة.. ثلاث فى صف واحد.. والرابعة وحدها في نهاية الصف الآخر بعد الحمام والردهة.. فتح غرفة من الثلاث قائلًا:

لا أعلم من أنتِ.. ولا أريد أن أعلم.. فقط يمكنكِ النوم هنا حتى الصباح ثم تذهبين من حيث جئتِ.. ولكن عليكِ أولًا الاغتسال وتبديل هذه الملابس القذرة.. يكفي ما فعلته بالسيارة.

دخل الغرفة المعزولة بينما تسمرت في مكانها حتى عاد إليها يحمل شيئًا من ملابسه قدمها لها لكنها لم تمد يدها لأخذها منه فسحبها في غيظ ليلقي بها في الحمام وأغلق الباب عليها” .

هنا يمكنك أن تتخيل مع الرواية طبيعة المكان الداخلية، وعلاقته بالحدث نفسه، فالمكان غير مسكون، وفي منطقة نائية حيث يتكون من طابقين: في الطابق العلوي منه أربع غرف مغلقة، وهناك غرفة منعزلة عن باقي الغرف، ويبدو أنها هي الغرفة التي يستخدمها هو نفسه. وبذلك تتشابك الأماكن مع الشخصيات والأحداث.

تمتلك عطا الله مقدرة هائلة في توظيف الأفعال الدالة على الزمن، مع التنويع بين الأفعال المشحونة بدلالات عاطفية معبرة عن الحدث، فهي تحمّل أفعلها شحنات تأثيرية ذات تعبير دال على حدث مثير مثل: مط شفتيه (إحدى عشرة مرة) تسمرت(عشر مرات) وغالبا ما تقترن الفعل(تسمر) بأحد أعضاء الجسد كأن تقول: تسمرت عيناه/تسمرت أقدامها… كما أنها تستخدم أفعالا معبرة عن الحالة التي عليها الشخصية من غضب أو سخرية أو فرح أو الولوج إلى حديث النفس كأن تقول: غمغم(عشر مرات) تمتم قهقه، وهي أفعال تحمل دلالات نابضة معبرة عن الحالة، تجعلك تتمثل الحالة التي عليها الشخصية. وهذه مهارة فنية من الروائية تجدها عن كبار الكتاب، وهي لا تقل عنهم مهارة.

تنتمي الرواية إلى الروايات البوليسية بما تحمله من إثارة ودهشة وتتابع لأحداث سريعة متتالية، لكن الروائية لم تشر إلى ذلك إلا متأخرا، حتى تشد إليها القارئ وتجذب اهتمامه إلى الشخصيات المتصارعة، وهما شخصيتان رئيستان: رجل وامرأة ويدور الصراع بينهما بشكل يثير الدهشة، حتى إنها لم تفصح عن وصف الشخصيات إلا من خلال الحوار، فلم تخصص وصفا دقيقا تحدد من خلاله أوصاف الشخصية فاستبدلت بالوصف الحوار.  ومن غير غلو فإن عطا الله تجيد الحوار أكثر من الوصف، وتميل إليه بشكل لافت، ومن خلال الحوار تتداخل الأحداث وتتصاعد، وهذا نادر في الروايات التي تعرض علي، فأجد فيها وصفا كثيرا، وحوارا أقل، وهذا يعني تمكن عطا الله من أدواتها السردية في مهارة فائقة، قلما توجد عند غيرها من معاصريها.

تمتاز روايات أماني عطا الله بمهارتها في توظيف لغة السرد عبر أنساق لغوية سهلة وبسيطة التراكيب، غير معقدة، ولا غامضة، ولا تعزو إلى اللغة التراثية بفصاحتها وقوتها، بل تميل إلى لغة أقرب إلى البسطاء والعاديين من الناس، ولم تهبط إلى مستوى العوام والسوقة في لغتهم وأساليبهم اللغوية، وأقرب ما تتصف به لغتها أنها تتجاوب مع الناس مختلفي الطبقات فهي تصلح للمثقفين والعاديين وأشباههما، تأسرك روايات أماني عطا الله بمجرد قراءة سطرين في الرواية، وكأنها تشدك من عمق أشغالك إلى عالمها السحري.