«آتون وآمون».. أسرار معارك الآلهة في مصر القديمة

منذ صعوده إلى عرش البلاد بدأ عصر جديد يلوح بالأفق، فقد قام الملك أمنحتب الرابع يبث أفكارًا ثورية غريبة لم تكن وليدة عصره، لكنه بدأ في اعتناقها منذ أن كان في قصر أبيه أمنحتب الثالث بالعاصمة طيبة، تغلغلت في وجدانه متأثرًا بزخم الأفكار الواردة من الشرق، التي ضجَّ بها قصر والده وتحولت إلى واقع غيَّر من حياة الناس.

عندما كان صبيًّا، عُرف عن أمنحتب الرابع البنية الضعيفة والجسد الرقيق والصحة المهزوزة، لذلك لم يكن معدًّا لمستقبل عسكري واعد مثل أبيه وأجداده العظام، ونشأ في بيئة نسائية ناعمة لا تشجع على الخشونة وسط حريم قصر أبيه، بينما اتجه بميوله نحو التفكير والتأمل وإطلاق روحه للتحليق في عالم ما فوق الطبيعة، ومال بفكره نحو العقيدة الشمسية حيث المعبود رع، إضافة إلى أن خاله “عانن” قد حمل لقب كبير كهنة رب الشمس، ما جعله ضمن كبار كهنة آمون في الكرنك، ما كان له تأثيره على فكر الأمير الصغير.

التقاليد

ورغم مرور السنوات الأولى من حكمه هادئة دون تغيير ملحوظ، حافظ فيها أمنحتب الرابع على التقاليد الملكية المصرية لأسلافه واستقرار نسبي للإمبراطورية التي تركها له أبوه، فإن عداءً مستترًا بدأ رويدًا رويدًا بين الملك الجديد وبين كهنة آمون، رب الأرباب طيبة ومعبود الإمبراطورية كلها.

بدأ أمنحتب الرابع في التفكير في ميوله القديمة التي اعتنقها حيث تقديس الشمس، واختار أحد مظاهرها وهو المعبود “آتون”، ذلك المعبود القديم، وبدأ يعيد بثَّ وجوده بين مختلف المعبودات، فأقام له مجمع معابد بالقرب من حرم الكرنك، وأطلق على الأكبر منها باللغة المصرية القديمة “جم با آتون” أي “مقاطعة آتون الساطع”، وظهر على صروح ذاك المعبد على شكل رجل برأس صقر مثله مثل المعبود الشمسي رع حور آختي، ثم ظهر بالشكل المجرد الذي استمر بعد ذلك، قرص الشمس ذات الأشعة المنتشرة والتي تنتهي بأيدٍ بشرية.

اندلاع شرارة الثورة

لم يهتم كهنة آمون بما يضمره الملك الجديد من تغييرات بسيطة لا تمس مكانتهم ولا تؤثر على العامة، فهم كهنة المعبود الأكبر آمون رع الراسخ في وجدان الناس وقلوبهم منذ آلاف السنين، ولا تحرك عسكري يتم أو نصر يتحقق إلا بمساعدته وتأييده لفيالق جيش الإمبراطورية.

ولكن مع مرور الوقت، أخذ الملك يزيد من ثروة معبد آتون ومنحه العطايا والهبات والعبيد، بينما أهمل معبد آمون وبدأ في تجفيف موارده لتقل خطورة الكهنة وتتهاوى سطوتهم. وبدت خطورته في انفراده وعدم الرغبة في اقتران اسم آتون باسم المعبود التقليدي آمون مثلما كان يحدث من قبل، ووصل به الأمر بأن أطلق على طيبة معقل آمون اسم “ضياء آتون”، وسمى منطقة المعبد باسم “مدينة ضياء آتون”.

كل ما جرى أشعر كهنة آمون بتصاعد الانقلاب، خصوصًا مع تزايد أعداد من الرجال حول الملك ممن يؤمنون باتجاهه الديني، رغم أنه لم يعلن التغيير بشكل رسمي، وتحسسوا الخطر الذي أخذ يهدد نفوذهم، فلم يعد الأمر مجرد نزوة لشاب حالم أو مجرد فلسفة عابرة، لكنه أضحى أمرًا واقعًا يتم تنفيذه على الأرض، فبيَّتوا الرغبة في خلق المصاعب أمامه واعتبروه عدوًّا مباشرًا لهم ولمعبودهم، رغم أنهم لم يُقدِموا على إعلان ذلك حينها.

الثورة

أصبحت العلاقة بين أمنحتب الرابع وكهنة آمون علاقة تناطح واضحة للعيان، وبات الأمر حتميًّا لدى الملك أن يعلن عن نوازعه الدينية الجديدة على الملأ دون خوف ويُظهر للعالم كله رتباطه الشديد بمعبوده الجديد/ القديم آتون، حينها أقدم على فِعلة لم يُقدِم عليها أي أحد على مدار تاريخ مصر القديمة: مع قدوم العام الخامس من حكمه أرسل إليه “إيبي” كبير السقاة بمنف يخبره بأن ممتلكات الملك في منف مزدهرة وفي أفضل حال، وهي آخر وثيقة لدينا تحمل اسم أمنحتب الرابع، وبعدها أعلن الملك رسميًّا تغيير اسمه من أمنحتب أي آمون راضٍ ليتبرَّأ من لفظ آمون في اسمه، وينتسب إلى معبوده المفضَّل فيكون أخناتون أي المفيد لآتون، ولم يكتفِ بهذا، بل أطلق على نفسه لقبه الحوري ليكون “مري آتون” أي محبوب آتون، واسمه النبتي “المقاطعة العظيمة في آخت آتون” ولقب حورس الذهبي “تمجَّد اسم آتون” .

إعلان الحرب

كان هذا بمثابة إعلان حرب مباشرة على كهنة آمون والبدء في انحسار نفوذهم والإعلاء من شأن المعبود الجديد ليكون هو معبود الدولة والملك شخصيًّا، وانطلقت الثورة رسميًّا على كل ما هو قديم وتقليدي، وجرى إبطال طقوس بقية المعبودات بصفة رسمية في جميع معابد مصر، وانصب الاضطهاد الاكبر على آمون وأتباعه من كهنة ومريدين، فأينما يظهر اسم آمون على الأحجار والسجلات وتماثيل الأجداد تنطلق جماعات العمال بأمر الملك لتشويهها ومحوها وإزالتها.

فنرى تسلُّق العمال على مسلَّتي حتشبسوت بالكرنك وأزالوا اسم آمون حتى أعلى نقطة فيها، بل وصل الأمر إلى كشط لفظة آمون من اسم أبيه أمنحتب الثالث. وبات آمون وغيره من المعبودات في الظل طي الاضطهاد أمام عنفوان المعبود الجديد الأوحد آتون، وذلك حسبما ذكر شريف شعبان في كتابه “توت عنخ آمون.. ملك من ذهب”..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى