«من نادلة في الحانات لأقوى سيدة في العالم».. حكايات عن أنجيلا ميركل

يقول المحللون السياسيون أنه  «عصر ميركل» ويصفونها بأنها «السيدة الأقوى في العالم»، وتعد ميركل بالفعل السيدة الأقوى وفقًا لعدة اعتبارات، فهي ملكة أوروبا غير المتوجة، والقائد الفعلي لاتحاد أوروبا، واجهت كل الأزمات بشجاعة، حمت بلادها من الانزلاق في هاوية أزمة اليورو بل وتصدت لها سواء داخل ألمانيا أو خارجها حتى تمكنت من إنقاذ منطقة اليورو من خطر الانقسام، وجعل بلادها أقوى اقتصاد في القارة الأوروبية، وذلك حسبما ذكرت هايدي عبد اللطيف في كتابها “موسوعة المشاهير” الجزء الثاني والصادر عن دار دوِّن للنشر والتوزيع.

صدارة تصنيف فوربس

احتلت ميركا صدارة تصنيف لائحة مجلة «فوربس» السنوية لأكثر النساء نفوذًا 11 مرة منها سبع متتالية، كانت آخرها في 2017 بعد فوزها بالانتخابات للمرة الرابعة. يطلق عليها الألمان «موتي» (Mutti) أي الوالدة لما يجدون فيها من عاطفة وتفاعل مع احتياجاتهم الاجتماعية. “موتي ميركل”، المستشارة الأبدية، نجحت في البقاء في السلطة كل هذه الأعوام،  في بلد ثري يتقدم سكانه في العمر ويفضل الاستمرارية والاستقرار على التغيير، بفضل نهجها البسيط وتفاعلها مع حاجيات معظم الشعب.

القوية الحامية

لا شك أن ميركل تشبه الاقتصاد الألماني الذي يتقدم بهدوء ولكن بثبات، خلال فترات حكمها الثلاثة والبالغة 12 عامًا، تمكنت من مواصلة تحويل رجل أوروبا المريض، كما تطلق الصحافة العالمية على ألمانيا، إلى صاحبة أكبر اقتصاد في القارة والأنجح، كما تسببت في إزعاج الدول الكبرى وخصوصًا الولايات المتحدة التي واجهت رؤساءها بشجاعة وحزم في مواقف عدة. تلك الفتاة التي بدأت حياتها نادلة في حانات ألمانيا الشرقية كي تتمكن من الإنفاق على دراستها، نجحت بإرادتها وتصميمها في الوصول لأعلى المناصب ليس في بلدها فقط بل في قارتها بأكملها وربما في العالم. وتسعى المستشارة الشرسة كما تصفها أحيانًا الصحف الأوروبية، التي تخطت قوتها ونفوذها المرأة الحديدية لبريطانيا، مارغريت ثاتشر، إلى تأكيد أن القوة الناعمة هي الأنجح على المستويين الداخلي والخارجي، بالإضافة إلى مواقفها الصارمة ومنهجها العلمي الجاف مقارنة بالعمل السياسي التقليدي.

يراها الناخبون من بلادها الشخصية التي حققت لألمانيا وضعها الاقتصادي المتميز داخليًا وخارجيًا، فقد وعدت أن تخرج ألمانيا قوية من الأزمة الاقتصادية الأوروبية. وبالفعل هذا ما أوضحته الإحصائيات الاقتصادية في سوق العمل، إذ بقيت جيدة لسنوات. أما خارج ألمانيا فتقوم ميركل بدور حامية بلادها، وسواء بعد قمم دول الثماني الكبار أو دول الاتحاد الأوروبي فإنها دائمًا ما تفسر نتائج المفاوضات على أنها تفوق للمواقف الألمانية، وتعطي انطباعا أن أموال الوطن آمنة في يديها.

المستشارة الصارمة

يعجب الألمان أيضًا بصرامتها في التعامل مع كثير من القضايا الحساسة، فهي وفقًا لرأي المحللين السياسيين تعرف كيف تبقي صفحتها نظيفة، لذا تشن هجومًا صريحًا حتى على أقرب الناس إليها، مستشهدين بما فعلته مع المستشار الأسبق كول بعد فضيحة التبرعات المالية التي أخفاها عن الحكومة لصالح حزبه فوافقت يومها على تشكيل لجنة لتقصي حقيقة التبرعات من دون مراعاة لأي شخصية متورطة فيها. كما تعاملت بصرامة في فضيحة مزاعم تنصت الولايات المتحدة على زعماء ورؤساء أوروبا ومن بينهم ميركل نفسها، الفضيحة التي هزت العالم في صيف 2013، وطالبت ميركل الحازمة الولايات المتحدة ورئيسها أوباما بالاعتذار عن التنصت على أوروبا.

الصحافة

أظهرت الصحافة الأوروبية وقتها صورة ميركل مقطبة حاجبيها وشفتيها مزمومتين، معبرة عن استياءها من الأمر مع عناوين مختلفة تشير جميعها إلى أن مستشارة أوروبا الشرسة تستعد لحرب جديدة تكشف فيها عن المزيد من قوتها ونفوذها. اكتسبت ميركل خصالها وقوتها من نشأتها الصارمة في ألمانيا الشرقية بسياستها الشيوعية إضافة إلى تربية والدها الدينية الملتزمة والجادة، فقد استطاعت أن تصل بالمبادئ التي تلقتها في صغرها لأعلى مكانة وتحافظ عليها.

خصال عائلية

تبدو «أنغي»، كما يسميها المواطنون البسطاء، دومًا جادة ومتحمسة لخدمة مصالح الناخب الألماني، وهذه هي الصورة العالقة في أذهان الغالبية العظمى، والتي تظهر فيها أيضًا كمرشدة ومنقذة في أوقات الأزمات، وفقا لرأي مجلة « دير شبيغل». صورة جديرة بالمصداقية يعود سببها إلى عائلتها المتدينة التي تعلمت منها صفتين هما العمل من أجل الآخرين والاستغناء عن التظاهر بالسلطة. كما صرحت ميركل نفسها ذات مرة أنها تعلمت رباطة الجأش والحس بالمسؤولية والتحفظ في بيت والديها.

ميركل

ومن ناحية المظهر أيضًا، تعطي إشارات توحي بالاستقرار، فقصة شعرها لا تغيرها منذ سنوات إلا ما ندر. كما أن ملابسها الرسمية متشابهة ولا تختلف إلا باللون فقط. ومهما عصفت أحداث بهذا العالم في الخارج، فإن ميركل تبدو في نشرات الأخبار بالصورة ذاتها كالعادة، ومظهرها يوحي بعدم الاضطراب، كلها صفات التقطتها من نشأتها في ألمانيا الشرقية أيام التقشف وصنعت شخصيتها الحالية.

طفولة ملتزمة

ولدت أنغيلا دوروتيا كاسنر ( ميركل لاحقا) في 17 يوليو 1954 بمدينة هامبورغ في شمال ألمانيا، وهي الابنة الكبرى لرجل الدين البروتستانتي هورست كاسنر، ولديها شقيق وشقيقة أصغر منها. بعد ولادتها بأسابيع، انتقل والدها للعمل في إحدى القرى بشرق ألمانيا (جمهورية ألمانيا الديمقراطية آنذاك)، مصطحبًا عائلته معه. بعدها بثلاث سنوات، غادرت عائلة أنغيلا القرية الصغيرة إلى مدينة تمبيلني التي استقروا بها حتى بعد انهيار سور برلين وتوحيد الألمانيتين عام 1990.

انغي

عاشت «أنغي» طفولة جادة وملتزمة، ما ساهم في تفوقها الدراسي خصوصًا في الرياضيات واللغة الروسية، بعد حصولها على شهادة المرحلة الثانوية، التحقت بجامعة «لايبتزغ»، التي كانت تلقب آنذاك بـ «جامعة كارل ماركس» لتدرس الفيزياء. أثناء الدراسة قابلت زميلها أولريش ميركل، وتزوجته فيما بعد وبرغم انفصالهما، عقب خمس سنوات، عام 1982، بقيت أنغيلا تحمل اسمه العائلي.

كارهة الشيوعية

تميزت ميركل طوال حياتها بقدرتها على إخفاء مشاعرها وأفكارها ومبادئها، فعلى الرغم من شكلها الذي يبدو كربة منزل أو امرأة عادية، استطاعت أن تتقلد أعلى المناصب، هكذا كان الحال في أثناء دراستها الجامعية، فقد كانت تبدو طالبة مجتهدة تركز على دراستها لتخفي عدائها للشيوعية.  وبعد التخرج سافرت إلى برلين عقب حصولها على وظيفة بالمركز الرئيسي للكيمياء الفيزيائية في أكاديمية العلوم.

خلال عملها بالمركز الذي ظلت به حتى عام 1990، انضمت لصفوف حركة الانتفاضة الديمقراطية التي تأسست في أواسط الثمانينات للتحضير للوحدة، وجعلها عداؤها للنظام الشيوعي ملاحقة بشكل دائم من جهازه المخابراتي السري. في الوقت ذاته، استكملت دراساتها العليا حتى  حصولها على درجة الدكتوراه. تعرفت خلال عملها في الأكاديمية على زوجها الحالي الكيميائي يواخيم زاور، الذي تزوجته في عام 1998.

فتاة كول

قبل انهيار جمهورية ألمانيا الديمقراطية في أواخر الثمانينيات، نمى حسها السياسي وبدت نشيطة أكثر في هذا المجال، تدعو لحرية سياسية أكثر لمواطني ألمانيا الشرقية. وانضمت ميركل لحزب نهضة الديمقراطية في العام 1989 في أول انتخابات حرة تجري في البلاد، وبعد الوحدة الألمانية، التحقت بحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي.

بعد إجراء أول انتخابات حرة في عموم ألمانيا الموحدة في 1990، أصبحت وزيرة لشؤون المرأة والشباب تحت حكومة هلموت كول (1990 – 1994) وكانت الصحافة الألمانية تسميها في ذلك الحين « فتاة كول» لأنها كانت قريبة منه حزبيًا وفكريًا ولأنه قام بتشجيعها. وفي عام 1994 أصبحت وزيرة البيئة وحماية الطبيعة والأمان النووي من 1994 – 1998 أيضًا في حكومة هلموت كول.

الوصول للقمة

بعد هزيمة كول في انتخابات 1998 أمام الحزب الديمقراطي الاجتماعي بزعامة غيرهارد شرودر، استقال كول، وصعدت ميركل لتصبح أمينًا عامًا لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، واستطاعت ان تصل لرئاسة الحزب في أعقاب سلسلة من الفضائح المالية التي هزته، ما جعل العديد من ساسة الحزب، أهمهم فولفغانغ شويبله، يفسحون المجال لميركل، حتى انتخبت في سابقة تاريخية في 10 أبريل 2000 رئيسًا للحزب، كأول امرأة وأول بروتستانتية تتولى مثل هذا المنصب في حزب له جذور مسيحية كاثوليكية متشددة.

بعد خسارة رئيس ولاية بافاريا، إدموند شتوبير في انتخابات 2002، أصبحت ميركل  الشخصية الأولى في الحزب. وفي انتخابات 2005، حصل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بزعامتها على أعلى نسبة بفارق بسيط أمام الحزب المنافس، الديمقراطي الاجتماعي بزعامة غيرهارد شرودر. بالرغم من ذلك، شددت ميركل على أحقيتها بحصولها على منصب مستشار ألمانيا، بينما زعم شرودر أحقيته بالبقاء في هذا المنصب. بعد مفاوضات شاقة، تمكن الحزبان في  أكتوبر 2005 من الاتفاق على تشكيل حكومة ائتلاف تقودها ميركل لتصبح يوم 22 نوفمبر 2005 أول مستشارة لألمانيا وأول مستشار لجمهورية ألمانيا الاتحادية من ألمانيا الشرقية، حينما انتخبها البرلمان الألماني بأغلبية، وتناصف الحزبين باقي المناصب الوزارية فيما بينهم.