محمد فهمي عبداللطيف يرصد تاريخ فتوات مصر

في مصر كان الفتوات الذين نعرفهم ولا تزال منهم أشباح مائلة إلى  اليوم كان لكل حي في القاهرة فتوة فكان هناك فتوة الجمالية وفتوة الناصرية وفتوة بولاق، أما الحسينية فكانت حي الفتوات وموئلهم , وفي الإسكندرية يسمون الفتوة :أبو أحمد” أبو الأحمدات ” تسمية لا أدري السبب فيها, ولعلها ترجع إلى فتوة كبير كان يحمل هذا الإسم, وقد كان لهؤلاء الفتوات دولة وصولة وكانوا حكومة داخل الحكومة كما يقولون فى العصر الحديث.

كان فتوات كل حى يعتبر نفسه مسئولا عن حيه وصاحب الكلمة فيه, ولا يرضى إلا أن يعترف له أهل الحى بهذه المكانة بينهم فإذا أقيم فرح أو نصب مهرجان أو مشت فى الطريق زفة عروس أو موكب مطاهر فلا يمكن أن يكون ذلك إلا بعد استئذانه والإذعان لحمايته ولابد أن يكون هو المقدم في ذلك وإلا طارت الكراسى فوق الرؤوس وانقلبت الدكك رأسًا على عقب وتحول الحفل إلى معركة عنيفة تشج فيها الجباه وتبقر البطون ويقع من الضحايا مالا يحصى عدد من الأبرياء الذين ساقهم سوء الحظ إلى هذا الحفل.

وكان فتوة كل حى يعتز بصولتة ويحلو له أن يظهر أنه صاحي السيطرة الكبرى وأن فتوات الأحياء الأخرى دونه قوة وأتباعا “وفتونة “ولهذا كان يتنادى فتوات الأحياء للمبارزة فيخرج فتوة الجمالية وأتباعه مصلا لمنازلة فتوة الناصرية وأتباعه فيتبارزون فى معركة يسقط فيها القتلى والجرحى.

فإذا انتصر أحدهما على الآخر سار فى موكب من أتباعه وهم يعلنون هذا النصر على الملأ وقد يعود المغلوب إلى التحدى وتعود المبارزة بينهما وهذا دواليك حتى يعلن أحدهما الإذعان إلى الآخر.

ويبدو لى أن هؤلاء الفتوات ثد أخذوا هذا تقليدا من فرسان المماليك فى أيامهم الأخيرة عندما انقسموا إلى شيع وأحزاب فكان أفراد الأحزاب المتعادية يخرجون فى النهار إلى المبارزة والطعان حتى إذا أمسى الليل أوأعطيت الإشارة بطلت المبارزة وأخذ كل فريه يدفن قتلاه وينقل جرحاه ويعود الباقون إلى المدينة وكأنه لم يحدث بينهم شئ وفى اليوم التالى يعاودون الكرة وما يزالون حتى يخضع أحد الزبين للآخر ويعلن الإذعان له.

وكانت فى هؤلاء الفتوات إلى جانب ذلك محامد ومكارم لا تجحد وكانوا يجيرون الضعيف إذا احتمى فيهم وينتصفون للمظوم إذا التجأ إليهم ومان الوحد منهم لا يضن بتقديم روحه فى سبيل حق هضمه حاكم مسلط أو اغتصه متجبر ما دام  أصحاب الحق قد انتدبوه لذلك؟

فكان هذا مما جعل لأولئك الفتوات مكانة فى المجتمع وخاصة فى عصر كثرت فيه المظالم وكانت القوة عماد المصالح وقضاء الأمور ولم تكن هناك علاقة منظمة للحقوق بين الحاكمين والمحكومين.

وفى المهمات الخطيرة والأمور التى تمس مصالح الشعب كان من الطبيعى أن يتصر هؤلاء التوات للدفاع عن هذه المصالح ليبرروا زعاماتهم وسطوتهم بين الناس على الأقل ولقد شاركوا فى كثير من المواقف الوطنية وفى دفع المظالم عن العامة..

يروى الجبرتى أنه فى آخر عهد المماليك كثر فرض الضرائب والفردات ولأتاوات على الشعب وكان عمال الوالى يخردون كل يوم لدباية فردة جديدة حتى ضاق الناس بذلك وهجروا دورهم وأعمالهم ..

وفى يوم خرج عمال البرديسى لجباية أتاوة جديدة فلما انتهوا إلى درب مصطفى بالقرب من باب الشعرية خرج نساء الحى وانهلن على عمال البرديسى ضربا بالعصى والمقشات وسرن فى مظاهرة صاخبة وهن يرددن.

“إيش تاخد من تفليسى يا برديسى” وشاهد فتوات الحسينية نساء درب مصطفى فهاجت حماستهم وتصدروا للأمر فخرجوا جموع كبيرة وتوجهوا إلى بيت القضاى وطلبوا منه أن يتدخل عند البرديسى لوقف المظالم والفردات “الإتاوات” التى يقررها على الشعب كل يوم.

وقصد القاضى من وقته إلى البرديسى وكلمه فى الأمر, وحذره من تطور الأمور إلى ما لا تحمد عقباه ومضبته, فأذعن البرديسى وأصدر الأمر إلى عماله بأن يكفوا عن جمع الضرائب و”الفردات” التى فرضها على الناس.

وعندما جاءت الحملة الفرنسية للاستيلاء على مصر, وتخاذل المماليك فى مقاومة  الفرنسيين ونهضت طوائف الشعب تدافع عن كيان البلاد واستقلالها. شارك ” الفتوات” فى هذا مشاركة فعالة.

وكان لهم دور مرموق فى المعارك التى التحم فيها الشعب مع المستعمرين فى ثورات القاهرة، التى تكررت للتخلص من الفرنسيين وطردهم، وكان نابليون يضيق كثيرا الشغب الذى يثيره هؤلاء الفتوات.. وكان يسميهم بالحشاشين البطالين, وكان دائما يصدر منشوراته إلى طوائف الشعب المصرى قائلا: “إياكم يا مصريين وسماع كلام الحشاشين البطالين”.

ولما جاء دور الاحتلال البريطانى ..وقامت الثورة الوطنية فى عام 1919، كان الإنجليز فى يقظة إلى هؤلاء الفتوات وإلى المشاغبات التى يثيرونها, فأغروهم بالمال ووسعوا عليهم فى العيش، ومهدوا لهم الوسائل للإفلات من طائلة القانون والعقوبة على جرائمهم ومآثمهم، فمنحوا الكثيرين منهم جنسيات غير الجنسية المصرية حتى يتمتعوا بحصانة الامتيازات الأجنبية لا رحم الله أيامها.

فكانوا يقتلون ويفجرون وينهبون ولا سلطان للحكومة عليهم ولا للقانون حق عليهم, ومن ثم تحول هؤلاء الفتوات إلى “بلطجية” وصاروا نقمة على الأمة لا تحتمل, وعونا للمستعمر على النكاية بأبناء البلاد والتسلط على أفراد الشعب ففى ظل الاستعمار البريطانى فسد “الفتوات ” وفقدوا كل مقوماتهم ومكارمهم الموروثة كما فسد كل شىء بالبلاد وكانت السعة التي هيأها لهم الاستعمار فى العيش سببا فى وضع حد لنهايتهم.

ذلك لأنه أقبلوا على الخمر والحشيش والموبقات، فدفع بهم ذلك إلى الهاوية المحتومة دفعا, ثم كان أن تخلصت البلاد من آثار الاستعمار, وانتظمت الأداة الحكومية واستكملت كل مقوماتها، وأصبح الأمر فى أيدى أبناء الوطن فأخذ رجال السلطة يتعقبون هؤلاء الفتوات الذين تحولوا كما قلنا إلى بلطجية، ويأخذونهم بالجزاء الرادع على شرورهم حتى ذهبت ريحهم, وخمدت أنفاسهم, وإن بقيت منهم أشباح تتراءى بين الحين والآخر في الأزقة والحارات بالأحياء الشعبية.

مقال لـ محمد فهمي عبد اللطيف محمد فهمي عبد اللطيف، من كتاب”تاريخ الفتوات في مصر” للكاتب سيد صديق عبد الفتاح، ومحمد فهمى صحفي لغوي ناقد من أهالي مصر، تخرج بكلية اللغة العربية في الأزهر، وعين أستاذا بها وبكلية الدعوة.