“عجز الأطباء عن علاجه”..محمود حكيم فتوة الكحكيين: تاريخ طويل من المعارك  

حروب أهلية..ومعارك دموية ..تستعمل فيها العصى، والسكاكين مأمور الدرب الأحمر ووكيل قنصلية فرنسا معلومات عن الفتوات وشهامتهم في مختلف الأحياء القاهرية نزاعاتهم الدامية من أجل رئاسة المناطق.، بحسب ما جاء في كتاب” تاريح الفتوات في مصر” للكاتب سيد صديق عبد الفتاح.

قسمت مصر في أواخر القرن التاسع عشر إلي مناطق نفوذ تحت إمرة رجال اتخذوا وبطشهم وجرأتهم المدهشة واستهانتهم بالقانون وسيلة لبسط نفوذهم في أحيائهم وإقامة “دكتاتوريات “هم رؤساؤها، وكانت لتلك الحكومات قوانين جائرة غير ثابتة ولا مدونة ,تتغير في كل يوم, بل في كل ساعة حسب الأحوال وتنفذ في غير هواده ولاضعف، وكان أولئك الحكام فتوات “مصر ” وأبطالها في المعارك التي كانوا يخوضون غمارها بين آونة وأخرى ..

فكان  في حي “الناصرية ” ثلاثة يتنازعون الحكم ويتقاسمون المجد ,ينازلون بعضهم بعضا، وهم: “أبو طاجن ” و”أحمد منصور”حسن الأسود “وكانوا يتنازع النفوذ في”باب اللوق” و”البلاقسة “:عبده الجياشي, وفرج الزيني و رجان السقا، وكان الحاج “حسن جاموس” يحكم في حي الحنفي وتحت يده ولي عهده “حافظ الهواري.

وتولى السيطرة على “الحسينية “المعلم ابراهيم عطية “وخليفته ونازعهما الحاج “محمد الطباخة “وكان حاكم (بولاق) “عفيفي القرد “وصاحبه المعلم “أحمد الخشاب ” وكان في ناحية “المحجر “الحاج” حسن الخشن ” ..

وفي الحطابة “حنفي حلوفة ” وفي المغربلين الست عزيزة الفحلة “وابنها ” محمد ” وفي قواديس وباب الخلق “محمود الفلكي وفي سوق السلاح: المعلم “عبدالغني ” وفي الدراسة ” حسن كسلة والعطوف: ” ابن وهدان “وفي الجمالية :” أولاد منتهي “والمعلم ” بدوي العلاف “وشقيقه ” علم وفي الكحكيين “محمود الحكيم” وشقشيه ” عبده الحكيم “وكان لكل واحد من هؤلاء “الفتوات الصبوات ” حوادث ومعارك ذكرناها لما وسعتها صفحات مصر الحديثة ولكنا نكتفي اليوم بسرد وقائع “التي أزهقت فيها أنفس وسالت دماء غزيزة .

محمود الحكيم

هذا الشاب كان والده رجلا قوي البنية, رباه تربية حسنه ومرنة على منذ نعومة أظافره فشب رجلا قويا لا يهاب الأخطار، ولما كان مولده في حي (الكحكيين ) أعلن أنه “فتوة “ذلك الحي وبعدة معارك, انتصر فيها، فاعتترف أهل الحي ببطولته, وتبعه جماعا وجعلوه زعيما عليهم .

فكانوا يأتمرون بأمره, ويخضعون لقانونه, وينفذون إرادته ضد خصومة والعابثين برغائبه، ولما تم له ذلك كله, طمع في أن ينتزع ألقاب البطولة من جيرانه فتوات الأحياء، فأدى ذلك إلى معارك عنيفة أزهقت الأرواح, وأسالت الدماء .

مقتل فتوة سوق السلا ح

كان “محمود الحكيم ” يسير في صباح يوم عيد إلى جهة تحت الربع فرأى المعلم “عبدالغني فتوة سوق السلاح، وكانت بين الإثنيين ضغائن ..فسار “محمود” وراء المعلم” عبدالغني”إلى باب الوزير ودخلا قهوة هناك ..

ولما شعر “عبدالغنى “بأن “محمود الحكيم ” يتبعه ..أخذ يشتمه ..وتناول مقعدا ضربه به على رأسه فوثب عليه “محمود الحكيم”وانتزع المقعد منه وضربه ضربة أطارت بها رشده فسقط على الأرض لا جراك به فتركه وانصرف هانئا بفوزه.

وجاء رجال الوليس فنقلوا “عبدالغني “إلى القسم حيث توفى ..وقدمت والدته بلاغا للنيابة اتهمت فيه “محمود الحكيم “بقتل ولدها ,فاستصدرت النيابة ترخيصا من قنصلية (فرنسا) بالقبض عليه لأنه كان يتمتع بحمايتها، ومكث في التحقيق 15 يوما ,إتهم في خلالها مأمور القسم بأنه هو الذي أمر عساكره, بضرب المجني عليه ضربا أفضى إلى موته.

وتدخل قنصل فرنسافي المسألة فأمرت النيابة باستخراج جثة القتيل من قبره,وكلفت الطبيب الشرعي بفحصها ففحصها وقدم تقريره القائل :أن الوفاة ناشئة من تناول كمية كبيرة من الخمر، فأخلي سبيل “محمود الحكيم “وانتهت المسألة على هذه الصورة ..

سيد عواد وبهية المحلاوية

وكان يحكم جهة (باب البحر )”سيد عواد “المشهور بقوته ..وكانت له خليلة تدعي “بهية المحلاوية “اشتهرت بجمالها، فتصدى ذلك الفتوة يوما لأحد مشاديدة”محمود الحكيم “وضربه ,فقدم شكواه إلى “محمود الحكيم ” فذهب معه في المساء إلى (الأزبكية )، والتقى في منزل “بهية المحلاوية “بسد عواد” فطلب منه أن يقدم الترضية اللازمة “لمشدودة “فلم يقبل ..فضربه على رأسه بعصاه الغليظة ضربة أسالت دمه وأطارت صوابه .

وجاء أتباعه لمساعدته فأشبعهم “محمود ” ضربا ولكما ..وما أن مرت نصف ساعة حتى فروا جميعا من أمامه وتم له النصر ..فأعجبت به عشيقة المحور واتخذته خليلا لها وبعد عدة أيام ..تصالح الخصمان.

مأمور الدرب الأحمر ووكيل قنصلية فرنسا

وحدث أن بلغ “حسين أفندي كامل ” مأمور قسم (الدرب الأحمر ) أن ” محمود الحكيم ” يدير محلا لبيع الحشيش في منزلة في ” الكحكيين ” فأراد ضبطه فاستصدر إذنا من (قنصلية فرنسا )..فانتدبت وكيلها للذهاب معه وكبس “الغرزة”..وفي الساعة التاسعة مساء .. ذهب المأمور ووكيل القنصل ..وأصيب المأمور ومن معه من الجنود بجراح ثخينة، وأخيرًا قبض عليه وحاكمت القنصلية ,وقضت بنفيه إلى الخارج ..فاختار (بيروت) له مسكنا فأرسله إليها .

وبعد سنة، تمكن من الرجوع إلى (القطر المصري ) فوشى به بعضهم لحكمدار مصر، وهذا أبلغ القنصلية, فقبضت عليه، وبعد تسعة عشر يوما توسطت له, فسمح له بالبقاء فى مصر.. وأخذت عليه التعهد اللازم باحترام القانون.

مقتل فتوة قواديس وباب الخلق

كان “محمود الحكيم ” صديقا لكثير من الشبان المستهترين أمثال المرحوم “على بك كامل فهمي “ضحية ” موغويت فهمي” وغيره، وكانوا يلجأون إليه ليحل لهم مشاكلهم , ويمنع عنهم اعتداء إخواته الفتوات , أو ليضرب لهم خصومهم من أبناء الذوات الذين كانوا يزاحمون في ميدان الطيش والغواية .

فكان يلبي دعوتهم في مقابل مبلغ يتقاضاه ويبلغ خمسين جنيها (آنذاك) عن كل حادثة، وحدث أن رجلا كان يدير منزلا للدعادرة في جهة (الخليج المصري) في دائرة مملكة ” الفتوة محمود الفلكي”وكان “محمود الحكيم ” يتحاشي الإصطدام به ومنازلته ..ولكنه في الوقت نفسه كان يريد أن يطهر مملكته من ذلك البيت السرى .

فكان يجلس هو ورجاله في مشرب يشرف على ذلك المنزل ..فكلما خرج رجل أمامهم  منه أوقفوه وجردوه من نقوده، وكان “سليم السلحدار “من مرتادي ذلك البيت، ففي ذات يوم قبض عليه وجئ به إلى “محمود الفلكي” فجرده من ملابسه ونقوده ثم أخلى سبيله، فذهب سليم من فوره إلى “محمود الحكيم ” وشكا له ما أصابه، ووعده بمبلغ من المال إذا هو له بثأره من “محمود الفلكي” فطيب “الحكيم ” خاطره ووعده بذلك .

وفي ذلك المساء نفسه ذهب “محمود الحكيم” هو وجماعة من أتباعه إلى الأزبكية، فشربوا كثيرًا، ثم صعدوا إلى (حانة) اعتاد “الفلكي”على “الحكيم” ..فالقاه على الأرض، وأشبعه لطما ولكما، ثم تناول “بلغته” وضربه بها على وجهه .. فجاء أجد أتباع “الحكيم” وأمسك “الفلكي” من يده ليرفعه من عمه .

فانتهز الحكيم هذه الفرصة وأخرج سكينا- كانت مربوطة إلى ساقه برباط من الجلد  وطعن بها “محمود الفلكي ” عدة طعنات في طعنات في صدره وبطنه ورأسه، وبعد ذلك غادر الحانه هو وأتباعه، وجاء البوليس على “محمود الحكيم” بعد عدة أيام وسلمه إلى (قنصلية فرنسا ) التي أخذت في محاكمته ..

ولم يستطع البوليس المصري إيجاد شاهد واحد يشهد أن”الحكيم ” هو قاتل “الفكي”فقضت المحكمة ببراءته وراح دم “الفلكي”هدر ولكن مصر استراحت من ” محمود الحكيم ” خمسة أشهر كاملة قضاها في السجن التحقيق .

معركة الكحكيين الكبرى

وفي سنة (1922) أراد رجل من أهل الصعيد يسكن منزله “محمود الحكيم “أن يتزوج ولما كانت العادة  عند الفتوات أن لا تسير الزفة إلا إذا تعهدها أحدهم بالحماية من فتوات الأحياء الأخرى التي تمر عليها .

طلب الرجل من “عيده الحكيم ” شقيق “محمود” أن يحمي الزفة، فقبل وحضر إخوان العريس وبلدياته وأتباعه من باعة الفاكهه والأشرار الذين يسكنون (الزهار والعدوية شركس) وكلهم يحملون وهراواتهم الضخمة وجاءت الموسيقى إلى منزل “الحكيم ” وخرج العريس في جمع من هولاء وهم في جلبة وضجة .

ولما كان “عبده الحكيم ” رجلا متعجرفا متكبرا ,أراد أن يكسر من حدتهم ..فصاح فيهم  طالبا أن يلتزموا جانب الصمت والأدب في أثناء خروجهم من حي “الكحكيين ”

فتألم بعضهم من ذلك ولم يأبه له ..فغاظه ذلك وأعتدى على أحدهم بالضرب ..فتصدى له آخر ,وضربه عدة ضربات في رأسه أسالت دماء من معه من أتباع “محمود الحكيم “الذي كان في ذلك الوقت نائما ..

وكانت والدة “عبده “مطلة من نافذة البيت ,فشاهدت ما حل بولدها ..فنادت “محمود ” وأخبرته بأن الصعايدة قتلوا شقيقه  “عبده “فتناول عصاته وكان يسميها “الحاجة فاطمة ” وهي ذات رأس ضخم مجوف ملئ فراغه بالرصاص واسرع لنجدة أخيه وأصحابه

ودارت بينه وبين الصعايده معركة عنيفة ,أستعملت فيها العصى الضخمة والهراوات الغيظة والسكاكين والأمواس، فهشمت الرؤوس ..وشقت البطون ..وسالت الدماء حتى خضبت الأرض .

وجاءت قوة من البوليس من أقسام (الجمالية والدرب الأحمر والمحافظة ) ونقلت عربات الإسعاف عشرات المصابين من الطرفين ..ولم تخمد نار المعركة إلا في المساء وأغلق أصحاب الحوانيت محلاتهم لينجوا بأنفسهم وفاضت روح أحد الصعايدة، وأجريت لآخرين عمليات في الصدور والبطن والرأس .

وقبض على “محمود” وشقيقه , وعلى شخص آخر يدعي “عبدالحميد”..فوضع الأول والثاني في سجن قره ميدان على ذمة التحقيق، ولكن صاحب سعادة حكمدار بوليس مصر وقف في هذه المرة موقفا جديا تجاه ذلك الشرير وشقيقه ,فأصر لدى القنصلية الفرنسية على نفيهما ..ونفاهما إلى” بيروت ”

الرجوع من المنفى

وفي أواخر عام (1928) استطاع “محمودالحكيم ” الهرب من بيروت ودخلا مصر متنكرين في زي أعرابيين، وبعد أن مكث خمسة عشر يوما في منزل شقيقتهما بحدائق القبة, أبلغ شخص مجهول حكمدارية العاصمة خبر دخولهما مصر.

فقامت الحكمدارية واستعدت وأبلغت وزارة الخارجية المصرية، وهذه طلبت من القنصلية إبعادهما فقبض عليهما ,فتنازلا عن رعوية فرنس، ولكن القنصلية لم تقبل وأرسلتهما إلى الأسكندرية حيث أقلعت بهما باخرة  إلى (مرسيليا ) ومنها إلى مدينة (فاس)بناء على طلبهما، فمكثا بها تسعة أشهر مرض “محمود الحكيم” في خلالها مرتين مرضا خطيرا, لم تنفع فيه حيل الأطباء، وقضى نحبه في نهاية الحلقة الخامسة من عمره بعيدا عن أولاده وعائلته ووطنه .

وضاقت (فاس ) في وجه شقيقه “عبده” واستأذن السلطات الغرنسية  في السماح له بالذهاب إلى مدينة الشام ..فصرحت له بذلك ومكث بها إلى أواخر الثلاثينات يدير فيها مقهى، وبالرغم من كثرة أرباحه فإنه كان يعيش منغصا عن عائلته ويسعى دائما للعودة إلى مصر وعلى كل حال فقد استراحت القاهرة من شروره وآثامه.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى