يطلقون عليه لقب «العراف»؛ لأن نبوءاته جعلته من أغنى أغنياء العالم، مستثمر لا مثيل له، هو رجل الأعمال الأشهر والأنجح في القرن العشرين بلا منازع، كون ثروته من دون الاعتماد على إرث أو تجارة عائلية فدخل التاريخ من أوسع أبوابه، الملياردير وارين بافيت، أسطورة الأوراق المالية وأشهر رجال الأعمال في أميركا اليوم، والذي يحتل المركز الثاني في لائحة مجلة «فوربس» لأثرى الأثرياء بعد أن تصدرها لسنوات عديدة.
حقق أرباحا مقدارها 100 مليار دولار من الأسهم والسندات المالية فقط، أما ثروته الإجمالية فيقال إنها توازي مجمل الناتج المحلي لعدة دول.. رئيس شركة «بيركشاير هاثاواي» التي تتحكم في محفظة تضم نحو 15 من أهم الشركات في الولايات المتحدة.. صاحب أكبر التبرعات الخيرية، كما ذكرت هايدي عبد اللطيف في كتابها “موسوعة المشاهير” الجزء الأول، والصادر عن دار دوِّن للنشر والتوزيع.
نصائح واستشارات هذا الرجل الاقتصادية يعتبرها الملايين حول العالم، الدليل والمرشد النبوئي للأسواق والأرباح والخسائر وعلى رأس تلك الملايين نجد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. خبرته لا يستهان بها، واستثماراته يراقبها الاقتصاديون ليتعلموا منه ومن نجاحاته. يرى أنه «لا يوجد سر لتكوين ثروة، وأن كل مستثمر قادر، عبر استخدام المبادئ والطرق نفسها، على تحقيق الملايين، والمحافظة عليها، وتمريرها الى الأجيال المستقبلية». اختارته مجلة « تايم» الأميركية في 2007 ضمن قائمتها لأكثر 100 شخص تأثيرًا في العالم.. لقب استحقه «وارين بافيت» الذي يعرفه العامة والاقتصاديون ويرونه القدوة التي يجب أن تحتذى لمن يريد أن يصبح من أصحاب المليارات، فهو بالنسبة للكثيرين المستثمر «الداهية».
عدو الذهب
تمكن من أن يحفر اسمه بحروف من ذهب في عالم البورصة والمال والأعمال، وبالرغم من ذلك رفض الملياردير الأميركي وأشهر مستثمر في العالم أن يخصص جانبا من استثماراته لشراء الذهب، رغم نصائح الاقتصاديين المتخصصين الشائعة بأن الاستثمار في الذهب أكثر أمانًا. فهذا النوع من الاستثمار بالنسبة لـ «بافيت» ليس إلا استثمارًا فاشلًا، بل إنه صرح في عدة مناسبات قائلا: إنه لو وصل سعر أوقية الذهب 800 دولارًا، فلن يشتريه أو يستثمر فيها أمواله، فهو لا يعتقد أن الاحتفاظ بقطعة من المعدن، مهما بلغت أهميتها، يمكن أن توازي استثمارات أخرى في الزراعة أو غيرها من الشركات مضمونة النجاح.
وارين بافيت لا يحتاج لمثل هذه النصائح، فرجل الأعمال البالغ من العمر 87 عاما، من أكثر الشخصيات تزمتًا ومحافظة فيما يختص بالقرارات الاستثمارية، لذلك نجح نجاحات كبرى وتجنب الوقوع في هاوية الانهيارات المالية الكبرى التي شهدتها الأسواق على مر عدة عقود. استطاع أن يحمي ثروته وأعماله، ولطالما استثمر بأسلوبه الخاص الذي يوصف بأنه عكس التيار، وحقق بذلك أرباحًا هائلة؛ جعلته يصبح اليوم أثرى أثرياء العالم ويتصدر لائحة مجلة «فوربس» لعدة سنوات، بثروة تبلغ اليوم نحو 77 مليار دولار.
الاستثمار بذكاء
يعتمد أسلوب بافيت على الاستثمار طويل المدى، حيث ينصح بشراء أسهم الشركات التي يمكن الاحتفاظ بها لمدة طويلة جدًا نتيجة ازدهار أعمال هذه الشركات وأسعار أسهمها التي تكون في صعود دائم. أسلوب بافيت في الشراء سهل جدًا وغير معقد، فمثلًا شراؤه لسهم «شركة جيليت» تم على أساس أن الرجال لن يتوقفوا عن الحلاقة في المستقبل، تماما كما كانوا في الماضي، لذلك فهو يتوقع لجيليت الاستمرار في بيع منتجاتها، وتحقيق عوائد مشجعة سنة بعد أخرى.
ويوضح أن الشركات التي يستثمر بها يجب أن تكون ذات نشاط واضح غير معقد، حيث إنه لايميل لشراء شركات التكنولوجيا العالية التعقيد. لذلك فمعظم أسهمه تعتبر من أسهم شركات الاقتصاد القديم. وعلى سبيل المثال، رفض في العام 2012، شراء أسهم في الشركات التي تدير أشهر مواقع الانترنت أو التواصل الاجتماعي مثل « غوغل» و» فيسبوك» مؤكدا أنه بالرغم من نجاحها الحالي فهو لا يستطيع التنبؤ بمستقبلها لذا يراها استثمارات غير آمنة.
اختيارات مضمونة
يدير بافيت مجموعة « بيركشاير هاثاواي» التي تستحوذ على حصص كثيرة في عشرات الشركات، وأهمها 15 شركة توضح التوجه الذي يسلكه ملك الاستثمار ورؤيته للاقتصاد الأميركي، وكذلك أهم قطاعاته. وتكشف قائمة بأهم الشركات أن بافيت لديه استثمارات بقيمة 60 مليار دولار في أربع شركات رئيسة، وهي مصرف «ويلز فارجو» بحوالي 20 مليار دولار، رابع أكبر المصارف في الولايات المتحدة من حيث حجم الأصول والأول من حيث القيمة السوقية. وفي المرتبة الثانية « كوكا كولا»، المشروب المفضل لبافيت مع امتلاكه حوالي 400 مليون سهم من أسهم الشركة. وفي المركز الثالث «أميركان اكسبريس»، أكبر مصدر للبطاقات الائتمانية في الولايات المتحدة، واخيرا شركة «آي.بي. إم».
من الشركات الأخرى الموجودة في محفظة المستثمر الداهية شركة «بروكتر اند غامبل»، إذ تعد من كبريات شركات صناعة المواد الاستهلاكية في العالم، و»وول مارت»، الذي يعد أكبر محل لبيع التجزئة في العالم، ومصرف «جولدمان ساكس»، كما يملك نحو 11 بالمئة من «وكالة موديز»، إحدى أهم مؤسسات التصنيف الائتماني في العالم التي بتصنيفاتها يمكن أن تخلق جوا من التذبذب العالي في الأسواق. وأخيرًا ملكيته لأسهم في «جنرال موتورز» وعدد من الصحف المحلية على رأسها صحيفة «واشنطن بوست». وتتداول أسهم مجموعة «بيركشاير هاثاواي» في بورصة نيويورك (NYSE)، ويعتبر سهماها من فئتتي (أ) و (ب) أغلى سهمين على الإطلاق في الأسواق العالمية. وقد حقق بافيت كل ذلك من دون إجراء صفقات عدائية، أو تسريحات ضخمة، أو استثمارات في أسواق الاقتصاد الجديد.
ضد التيار
يعرف عن بافيت أنه عادة ما يعاكس التيار في اختياراته، وخصوصًا بعدما راهن في السنوات الأخيرة على الصحافة المكتوبة التقليدية مستثمرا ملايين الدولارات لشراء مجموعة من الصحف المحلية في الولايات المتحدة متجاهلًا التوقعات المتشائمة بانتهاء الصحف التقليدية. ففي نهاية 2011، خصص المستثمر الأميركي الذي يحظى بأكبر قدر من الاحترام، مبلغ 300 مليون دولار لهذا القطاع، واشترى عددًا من الصحف المحلية. وقال في رسالة وجهها الى موظفي «بركشاير هاثواي»، «اظن أن الصحف التي لديها تغطية محلية واسعة، لها مستقبل».
ويرى محللون أن بافيت مستثمر انتهازي يبحث عن شركة أو قطاع يعاني من الجمود ويرى فيه إمكانية لتحقيق المكاسب، ولكنه يعمل أيضًا على أن يجد وسيلة لحفظ خسائر هذا القطاع، وقد اشار بالفعل الى أنه يسعى الى تحديد استراتيجية رقمية جديدة لصحفه. في الوقت ذاته، يقوم بافيت بعمليات شراء مضمونة، تساهم في استمرارية نجاح مجموعته الاستثمارية، مثل الصفقة التي أجراها مطلع 2013 عندما اشترى علامة « هاينز» للكاتشب، في إطار عملية قدرت قيمتها بنحو 28 مليون دولار بحيث اعتبرت من أكبر الصفقات التي نفذت حتى اليوم في قطاع الصناعات الغذائية.
موهبة وراثية
مهارة بافيت في انتقاء استثماراته، موهبة طورها على مدار سنوات، وخبرة تعلمها من والده الذي كان سمسارا للأوراق المالية، إلى جوار عمله الأساسي كصاحب متجر للبقوليات. ولد وارين بافيت عام 1930 في مدينة أوماها بولاية نبراسكا الأميركية، وهو الابن الثاني بين ثلاثة، والصبي الوحيد لهاوارد بافيت، الذي كان سمسارا في سوق الأسهم، وعضوا في مجلس النواب عن الحزب الجمهوري.
أظهر وارين منذ طفولته موهبة كبيرة في فهم الأنشطة التجارية والرياضيات، إذ كان قادرا وبسهولة على حل المعادلات الرياضية المعقدة من دون الاستعانة بالقلم والورق. كما عرف عنه ولعه في قراءة الكتب؛ حيث أظهر جوعًا لا يشبع نحو المعرفة، وخصوصًا في مجال الأعمال وأسواق المال.
بدأ وارين العمل في مؤسسة السمسرة التابعة لوالده في عمر الحادية عشرة. وكانت أول عملية قام بها بافيت، عندما اشترى أسهم شركة «سيتيز سيرفيسيز» مقابل 38.25 دولار للسهم الواحد، ثم باعها عندما ارتفع السعر إلى 40 دولارا وذلك قبل أن تواصل أسعار أسهم هذه الشركة الارتفاع لتبلغ 200 دولارا بعد أعوام قليلة. وقد علمته هذه التجربة أهمية الاستثمار في الشركات الجيدة لفترة طويلة. في عمر الرابعة عشرة، اشترك مع زميل له في المدرسة الثانوية في وضع مكائن تسلية في محلات الحلاقة، وربح منها 1200 دولار، استغلها في شراء مزرعة مساحتها 40 إيكر (الإيكر4000 متر) قام بتأجيرها إلى مزارعين مستأجرين.
المستثمر المغامر
أثناء دراسته الثانوية أصبح لديه مصادر للإيرادات تأتي من عدد من الصحف كان يديرها، ومن شركة «ويلسون كوين أوب» المصنعة لمكائن التسلية والتي أسسها مع صديق له، ومما يدفعه إليه المزارعون من إيجار مقابل استخدام وزراعة الأرض التي كان يملكها. ومع بلوغه سن السادسة عشرة وتخرجه ضمن الطلبة العشرين الأوائل في المدرسة الثانوية، كان لدى وارين توفير قيمته 5 آلاف دولار، وعلى الرغم من تفوقه كان يرى أن الجامعة ستكون مضيعة باعتباره مستثمرا مغامرا، غير أنه أذعن في نهاية المطاف إلى نصيحة والده وأقدم على دخول الجامعة.
تخرج بافيت من كلية «وودرو ويلسون العليا» بجامعة واشنطن في عام 1947، التحق بعدها بكلية «وارتون» الشهيرة في جامعة بنسلفانيا حيث قضى فيها ثلاثة أعوام لينتقل بعدها إلى جامعة نبراسكا. وهناك بدأ اهتمامه بمجال الاستثمار بعد أن قرأ كتاب «المستثمر الذكي» لمؤلفه بنجامين غراهام الذي تتلمذ على يديه حتى نال في عام 1951 درجة الماجستير في الاقتصاد من كلية كولومبيا للأعمال، وكان غراهام هو المشرف على رسالته.
عالم الأعمال
في عام 1956 أسس شركة «بافيت أسوشييتس المحدودة» التي مثلت أول شراكة استثمارية له، فقد بلغ تمويلها 200 ألف دولار تقاسم بافيت وشريكه في الأعمال منذ الطفولة نصفها والباقي دفعه شركاء محدودون يتألفون من أسرة وأصدقاء بافيت. ولاحقا، استطاع أن يؤسس شراكات إضافية تم جمعها فيما بعد تحت مظلة «بافيت بارتنرشيب» المحدودة. حققت تلك الاستثمارات ما يزيد عن 30 بالمئة من الإيرادات خلال الفترة بين 1956 و1969 في سوق كان معدل العائد الاعتيادي يتراوح بين 7 و11 بالمائة.
في عام 1962 بدأت شركته بشراء أسهم شركة «بيركشاير هاثاواي»، وهي شركة صناعية كبيرة تعمل في قطاع المنسوجات الذي كان يشهد تدهورًا ملموسًا آنذاك. وفي عام 1969 قام بحل جميع الشركات التي أقامها ليركز على إدارة «بيركشاير هاثاواي»، التي تحولت على يديه إلى واحدة من أكبر الشركات القابضة في العالم بفضل دوره في إعادة توجيه الأموال النقدية الفائضة لدى الشركة نحو الاستحواذ على الأعمال الخاصة وأسهم الشركات العامة.
حياة متواضعة
أصبح بافيت مليونيرًا في منتصف ستينيات القرن الماضي من استثماراته؛ حيث اتجه لتطبيق فلسفته وشراء الشركات المستقرة الناجحة مثل جيليت وكوكاكولا وغيرهما.. وبحلول العام 1990 دخل في زمرة أصحاب المليارات. وعلى الرغم من ثروته الهائلة، فقد عرف عنه أنه يعيش حياة متواضعة خالية من مظاهر البذخ والإسراف التي تميز حياة غيره من الأثرياء. ويعد راتبه السنوي ضئيلًا قياسًا إلى رواتب ومكافآت المديرين التنفيذيين في شركات أخرى مماثلة لشركته.
يصفه البعض بالبخل الشديد ويراه الآخرون يحسن توظيف الأموال خصوصًا مع تبرعه المستمر للأعمال الخيرية. كما أنه عندما اشترى في عام 1989 طائرة خاصة بنحو 10 مليون دولار، برغم انتقاداته السابقة إلى مثل هذه المشتريات الباذخة من قبل مديري الشركات والأثرياء، كان ذلك لأنها توفر له ساعات من الانتظار في مطارات العالم، الأمر الذي يحتاجه بشدة كرجل أعمال