“توظيف تقنيات السينما عند سعاد عسيري”.. دراسة نقدية للدكتور أحمد فرحات
تمتلك القاصة سعاد عسيري حسا سرديا عاليا، تلتقط موضوعها السردي في واقع بيئتها، مكونة فضاء سرديا لا حد له، وتنهض عسيري على إرث ثقافي متخم بالكنوز المعرفية، لغة وثقافة شعبية، جعلتها توظف اللهجة العامية بمهارة وحذق، خالقة جوا من المتعة الحقيقية لكل قرائها على اختلاف مشاربهم وألوانهم الثقافية والفكرية. إن السمة الأبرز في أدب سعاد عسيري السردي هي الوصول بأفكارها إلى قطاع عريض من الجمهور المحب للهجة العامية قريبة المأخذ من قلوبهم وعقولهم.
قتوظيف العامية جعل لها جمهورا كبيرا يتفاعل مع منجزها السردي بشغف وهوى، كما أنه قرب إليها متلقين أكثر، فباتت أعمالها يتلقفها الجمهور مدركين أنهم واجدو المتعة والتعبير عن خلجات نوازعهم النفسية، واستنادا إلى ما سبق فقد ساهمت عسيري في وصول الفن القصصي إلى أفق أكثر رحابة واتساعا، حيث وظفت تقنيات السينما المعاصرة في عملها قيد الدراسة”بائعة العسل” فقد أكسبت القصة تقنيات جديدة هي من صميم العمل القصصي المعاصر وذلك من خلال التشاكل الزماني والمكاني، وتكسير البنية الخطية التقليدية والبناء المعقد للشخصيات.
لجأت عسيري إلى أساليب السرد السينمائي ووظفت تقنيات هذا الفن فأصبحت كالسينمائي يستخدم اللقطة البانورامية، ويحرك الكاميرا ويتلاعب بالضوء والمسافة:” دخلتُ الشَّارع الذي نقبعُ فيه، محلَّاتُ الخُضرة، والفاكهة، ومحلَّات بيعِ النَرجِس والنعناع البلديِّ. شعرتُ بنشوةٍ، وتلك الرَّوائح تُداعبُ أنفي، تابعتُ سيْري حتَّى وصلتُ إلى نهاية زُقاق العطَّارين، ورأيتُه، وقفتُ مَشدُوهًا. أضواءٌ صفراء وخضراء وحمراء تتلألأ. تنمَّلَتْ أطرافي، تعرَّق جبيني، قدمايَ اِنْغرسَتا في الأرض: «هل عادت إلى دُكَّانِها؟».
وبهذا اصبحت القصة “بائعة العسل” عملا سينمائيا بمقدار ما فيها من مشاهد متنوعة ومثيرة، ولما فيها من مشاعد حوارية تحمل إمكانية صالحة للمعالجة السينمائية. جدَّتي كانت اِمْرأةً تصلُ رَحِمَها، ولطالما سافَرتُ معها إلى أماكن بعيدة. قُرى متناثرة في بطون الأودية، وأخرى تجلسُ على هامَةِ الجبال، أو نزلتُ معها في بُيوتٍ واسعةٍ في مُدُن الجُنوب الكبيرة (خميس مشيط، جازان، نجران)، وحتَّى أَبْها التي كانتْ تقولُ عنها: «إنّها أجملُ من لَندُن»، زُرتُها لأوَّل مرَّة معها.
«وهل زُرتِ لَندُن يا جدَّة؟» أسأل، وأنا أركضُ خلفَها في الشَّارع، «لا. وَيْش لي في لَندُن يا ولدي، وأهلي كلُّهم حَوْلي هُنا»، فأنت هنا أمام مشهد حواري سينمائي بامتياز، توافرت فيه عناصر الحركة، والصوت، واللون، بشكل يسمح للقارئ القدرة على التخيل والتصوير.
تقع القصة “بائعة العسل” في شكل حلقات سردية عنقودية أي مجموعة من القصص والحكايات عن الجدة يرويها الحفيد تتجاور معا، وأحيانا تستقل كل منها عبر فضائها ومنظورها السردي، ولكننا نكتشف الخيط الذي يربط بين هذه القصص عن الجدة والتي تتمثل في وحدة المكان والزمان والشخصية مع تنامي خط الزمان في كل حكاية.
ومن العناصر السينمائية التي لم تغفلها عسيري الإضاءة التي كانت مؤشرا مهما في القصة إذ هيأت أضواء اللمبات الملونة صفراء وخضراء وحمراء مساحة ممكنة من الرؤية فاتسع بذلك حقل التقاط الصورة البصرية. وكذلك اهتمت بالصورة الشمية عن طريق حاسة الشم، فتقول:”دخلتُ الشَّارع الذي نقبعُ فيه، محلَّاتُ الخُضرة، والفاكهة، ومحلَّات بيعِ النَرجِس والنعناع البلديِّ. شعرتُ بنشوةٍ، وتلك الرَّوائح تُداعبُ أنفي، تابعتُ سيْري حتَّى وصلتُ إلى نهاية زُقاق العطَّارين، ورأيتُه، وقفتُ مَشدُوهًا. أضواءٌ صفراء وخضراء وحمراء تتلألأ. تنمَّلَتْ أطرافي، تعرَّق جبيني، قدمايَ اِنْغرسَتا في الأرض: «هل عادت إلى دُكَّانِها؟».
فبعد أن كان القاص يقوم بدور الحكواتي فبفضل تقنية المشاهد السينمائية تحول إلى خلق عالم غني بالألوان البصرية والمشاهد القادرة على صنع التخيل الشمي في الصورة الشمية أصبحت القصة أكثر عمقا وأكثر إحساسا بالجمال الفني الفائق الدقة.