«يشرب سيجارته بوقت ويأكل بوقت وينام بوقت».. حكايات أخرى لنجيب محفوظ

كان أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ ملتزمًا من ناحية الوقت، يأكل بميعاد ويشرب سيجارته بميعاد وغيرها من الأمور التي عرفها المقربون منه واحترموها وقدروها وتعلموا منها، وفي كتابه ” ليالي نجيب محفوظ في شيبرد” يسرد الكاتب الصحفي إبراهيم عبد العزيز الكثير من الحكايات في هذا الشأن.

تفاصيل الوقت في حياة نجيب محفوظ

يقول الكاتب الصحفي إبراهيم عبد العزيز في المقدمة التي صدرت للأجزاء عن مؤسسة بتانة للنشر والتوزيع:” من جيب البنطلون الصغير كان يخرج ساعته الكبيرة وينظر فيها توطئة لأن يخرج من جيب الجاكيت علبة السجائر ليشعل سيجارة، كنت أظن فى البداية أنه لا علاقة بين الأمرين، واحتجت إلى عدة أسابيع قبل أن أكتشف أنها عملية منظمة وخطة مرسومة، وأنه يرفض أن يدخن السيجارة إلا بعد أن يستوثق من أنه مرت على سابقتها ساعة كاملة.

كذلك يستطيع الجيران – وهذا غريب بعض الشىء- أن يضبطوا ساعاتهم على اللحظة التى ينطفىء فيها النور فى حجرة مكتبه، معلنا عن انتهائه من الكتابة.. فى لحظة الكف يجب أن يكف مهما كان من أمر، تلك اللحظة التى ربما حلت (هكذا حكى لى والله على ما أقول شهيد) وقد انتهى من السياق إلى حرف جر، فيلقى بالقلم وينهض دون أن يكتب المجرور!.. تلك أمثلة سريعة لدور الساعة فى حياة نجيب محفوظ حتى بعد أن تحولت من ساعة فى جيبه إلى أخرى تحيط بمعصمه، ولقد حاولت أن أتذكر متى حدث هذا التحول على وجه التحديد ففشلت، ولابد على أى حال أنه كان فى فترة غير بعيدة من شروعه فى “أولاد حارتنا”، والساعة مهما كان ما هى إلا رمز عام لما تتسم به حياة كاتبنا الكبير من الدقة البالغة ومن العادات الحديدية الصارمة.. للراحة بالطبع وقتها المعلوم مثل سائر النشاطات، وقد اختار لها نجيب يوم الخميس.

فى تمام الساعة التاسعة من صباح كل خميس أعرف أن شيئا معينا يجب أن يحدث، وذلك هو رنين جرس التليفون، وذات يوم حدث ذلك التأخير الكبير وصحت مخاوفى، إذ عرفت فيما بعد أن قريباً عزيزاً لصديقى قد مات فانشغل عن سهرة الخميس.

وفى التليفون أسمع صوت صديقى العزيز ضاحكا مرحا كعهده ومستوثقا من أن شيئا لم يطرأ مما يمكن أن يلغى سهرة “الحرافيش”.

والسهرة بالطبع يجب أن تبدأ فى ساعة معينة، تلك الساعة التى تحددت -وفقا لظروف كثيرة متشابكة- فى الساعة الثامنة والنصف مساء. ومن ذلك أن نجيب يجب أن يكون قبل ذلك فى مقهى معين بالعباسية مع شلة من أصدقائه القدماء، فى الساعة السابعة يجب أن يصل إلى ذلك المقهى ويقوم، وبحسبة بسيطة للزمن الذى يستغرقه التاكسى فى الوصول من العباسية إلى شارع الهرم حيث أقيم وحيث تدور السهرة يمكنك أن تعرف لماذا لا يمكن لتلك السهرة أن تبدأ قبل ذلك.

ولقد اقترحت عليه ذات يوم – طمعا منى فى أن أقضى الليلة معه من بدايتها أن يحول لقاء العباسية هذا إلى يوم أخر من أيام الأسبوع، فنظر إلىّ فى شىء من الاستغراب ثم ضحك، فهى إما نكتة منى، هكذا قال لنفسه وإما سذاجة عجيبة غير متوقعة تلك التى هيأت لى أنه من الممكن تغيير هذه العادة التى درج عليها منذ عشرين سنة.

كباب وكفتة من اجل أحباب نجيب محفوظ

وعلى صوت التاكسى  أشم رائحة الكفتة والكباب! ذلك ان نجيب كان قد رأى فى وقت لا أذكره، ولظروف لا أذكرها أن يسهم فى سهرة الحرافيش بكيلو جرام من الكباب، وتكرر الأمر عدة مرات فتحول إلى واحدة من تلك العادات الحديدية الصارمة، وتستطيع أن تثق بالطبع فى أن نجيب يقضى السهرة على مقعد معين لا يتغير أبدا متصدراً شلة الحرافيش التى بوصفها من عادات نجيب محفوظ لم يتح لها أن تتغير كثيرا طوال ما يقرب من ربع قرن،  هناك عادل كامل الذى بدأ العمل الأدبى فى نفس الوقت مع نجيب محفوظ، والذى لو واصل الكتابة لكان له الآن شأن كبير، لكنه ما لبث أن زهق وتفرغ لمهنته الأصلية وهى المحاماة، وهناك أحمد مظهر وثروت أباظة، وهما غنيان عن التعريف، وإيهاب الأزهرى ممثلا للفن الإذاعى، وفنان بالروح إن لم يكن بالممارسة هو صبرى شبانة، وغير هؤلاء كان هناك المخرج توفيق صالح قبل أن يهاجر، والدكتور مصطفى محمود قبل ان يتدروش، وصلاح جاهين قبل أن يتزوج!.

على نفس المقعد يجلس نجيب  محفوظ وبنفس الضحكة العريضة المجلجة يسعد حياتنا مساء كل خميس، فهى إحدى متناقضات النفس البشرية التى يحار الإنسان فى فهمها، إن كل هذه الجدية والصرامة مركبة فى نفس رجل أشد الناس حبا للمرح وقدرة على الضحك، ومن أسرعهم بديهة وأحضرهم نكتة، سواء على مستوى النكتة المثقفة العميقة التى تغوص فى الأعماق، أو القفشة السريعة الماجنة، بل وعلى مستوى القافية، التى أذكر أننى غامرت مرة فى بداية معرفتنا بمساجلته فيها، فأخذت دشا من النكت التى مازلت أذكر بعضها إلى اليوم، والتى كنت أحب أن أسوق لك بعض أمثلة منها لولا أننا لم نتعارف بعد على كتابة مقالات للكبار فقط! لكن الساعة بالطبع جزء صغير من آلة زمنية أكبر وهى النتيجة، ودورها فى حياة نجيب لا يقل أهمية عن دور بنتها الساعة، من ذلك أن موسم الكتابة يجب أن يتوقف فى تاريخ معين لا يتغير، وهو مساء اليوم الأخير من شهر إبريل، وذلك لأنه ابتداء من أول ما يو يجب أن يهيىء عينيه لاستقبال الرمد الطبيعى، ذلك المرض الدورى الذى يعرف حب صديقى للنظام فيرفض أن يؤخر قدومه يوما واحدا.

ماذا يصنع بوقته طوال تلك الأشهر الربيعية؟ لا أدرى على وجه اليقين إذ سألته فقال إنه أحيانا يقرأ وأحيانا يتفرج على التليفزيون، غير أننى لا أحب تصديق الأمور بهذه السهولة، فلماذا يحول الرمد الربيعى دون الكتابة ولا يحول دون القراءة، وبالنسبة للتليفزيون ألا يخشى أن تتسبب له الشاشة اللامعة بالإضافة إلى مستوى البرامج فى شىء من المضاعفات؟.

شهور الصيف عند نجيب محفوظ

وتمر أشهر الصيف وهو يتطلع إلى النتيجة ويترقب يوما خاصا من أيام السنة وهو اليوم الأول من شهر سبتمبر الذى يستطيع أن يسافر فيه إلى الإسكندرية. نعم هو يأخذ أجازته من بداية أغسطس أو من منتصفه، ولكن قدراً ما قد حدد سفره بالأول من سبتمبر، لو عرضوا عليه أن يسافر يوم 31 اغسطس بالمجان لرفض العرض، مفضلا أن يسافر فى اليوم التالى على حسابه الخاص!.فى أول سبتمبر المبارك ينحشر هو والأسرة فى التاكسى وينطلقون إلى الإسكندرية متوقفين فى برج المنوفية لا مفر من ذلك للتزود بشىء من الفطير المشلتت، فإذا ما وصلوا من الرحلة إلى الحدود الشمالية لمحافظة البحيرة نظر نجيب فى ساعته وبدأ يهرش، فكما يحافظ الرمد الربيعى على موعده معه فى مايو، كذلك تحافظ حساسية “الأورتكاريا” على موعدها معه بمجرد أن يشم هواء البحر، ولن أدهش بالمرة إذا علمت ان الحساسية تبدأ إكراما للرجل المنظم عند علامة معينة من علامات الكيلو!.

وابتداء من ذلك اليوم يمكن لسكان الكورنيش أن يشرعوا بدورهم فى ضبط ساعاتهم على الطقوس الصيفية لنجيب محفوظ وأهمها موعد وصوله اليومى إلى كازينو بترو، وله فى ذلك الكازينو كما لابد أنك تتصور مقعده الخاص الذى لا يتغير بجانب نفس المائدة فى نفس الركن الذى اصطفناه رجل منظم آخر هو توفيق  الحكيم، فأنت تستطيع أن تضبط ساعتك  أيضا على اللحظة التى ينظر فيها فيلسوف التعادلية فى ساعته ويصفق طلبا لفنجان القهوة الثاني، وهناك يجلسان يوما بعد يوم وعاما بعد عام، متجاورين شامخين.