“مر عليه 224 عامًا”.. حكاية أول تحقيق جنائي 

في عام 2022 مضت مائتين وأربعة وعشرين عاما على حملة نابليون بونابرت على مصر والمعروفة تاريخيا باسم الحملة الفرنسية، أنقسم المصريون حول حملة بونابرت إلى قسمين: قسم يري أنه لا يجوز لنا أن نهتم بذكرى أليمة هي ذكرى الاحتلال الفرنسي، بينما رأي آخرون، أن الاهتمام بأول تبادل ثقافي بين المصريين والعالم الغربي.، بحسب ما جاء في كتاب”حكايات عابرة” للكاتب حمدي البطران.

أيا كان الأمر، سواء كان الاهتمام بمحتل أو تبادل ثقافي، فإن حملة بونابرت لم تكن كلها احتلال، كما لم تكن كلها فائدة المصريين، فقد كانت للحملة أهداف عسكرية أعلن عنها نابليون بونابرت وأعلن عنها المؤرخون الفرنسيون، كما أن الجانب الثقافي فيها معروف، وسجله لنا الجبرتي بكل دقة.

كانت دقة الجبرتي في تسجيل الأحداث هي التي دفعتني إلى اختيار قضية محاكمة سليمان باعتبارها تمثل، أول تحقيق جنائي في قضية اغتيال سياسية في مصر، وكانت كذلك أول مرة يَسمع فيها المصريين عن قانون الجمهور الفرنساوية، وهو ما نَبَه له الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابة تخليص الإبريز في تلخيص باريز.

كما أن تحقيق القضية والإجراءات التي اتخذت حيالها هي من مبادئ القانون الجنائي الفرنسي والذي أصبح فيما بعد المرجع الأساسي للقانون المصري في مسائل الإجراءات الجنائية، كما أنها المرة الأولي في مصر التي لا يقتل فيها القاتل بمجرد القبض عليه، ما أثار اهتمام الجبرتي هو أن الفرنسيين لم ينفذوا القتل في سليمان الحلبي بمجرد اعترافه. وانتظروا تشكيل المحكمة ومحاكمته.

ويقول الجبرتي إنها عن وثيقته:”تتضمن خبر الواقعة وكيفية الحكم  عليها , ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكمون العقل ولا يدينون بدين , وكيف وقد تجاري  على كبيرهم ويعسوبهم رجل أفاق أهوج وغدره وقبضوا  عليه وقرروه , ولم يعجلوا بقتله, وقتل من اخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا  عليه ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم , بل رتبوا حكومة ومحاكمة واحضروا القاتل وكرروا  عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول, ومرة بالعقوبة, ثم أحضروا من أخبر عنهم وسألوهم أفرادا ومجتمعين, ثم نفذوا الحكم فيهم بما افتضاه التحكيم, وأطلقوا مصطفي أفندي البرصلي الخطاط حيث لم يلزمه حكم ولم يتوجب  عليه قصاص, كما يفهم من فحوي السطور, فخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أوباش العساكر العثمانيين الذين يدعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدين وقتلهم وتجاريهم  على هدم البنية الإنسانية ” .

تنحصر وقائع القضية في أنه في يوم في يوم 14 يونيو1800 , وبينما كان قائد الحملة الفرنسية الجنرال كليبر الذي خلف نابليون بونابرت يستعرض كتيبة جديدة أضيفت إلى الجيش الفرنسي عرفت باسم كتيبة الأروام، وبعدها عاد إلى الأزبكية ليتفقد أعمال الترميم في دار القيادة العامة ومسكن القائد العام، وكان يصحبه المسيو بروتان المهندس المعماري، وبعدها ذهبا إلى منزل الجنرال داماس حيث أعد لهما وليمة دعا إليها القواد وبعض أعضاء المجمع العلمي، وبعدها عاد كليبر ومعه المهندس بروتان إلى منزله.

وبينما كليبر يسير وبجانبه بروتان خرج  عليهما  سليمان الحلبي من مكمنه وراء بئر الساقية, واقترب من كليبر, ومد يده, كأنه يتوسل إليه, وسرعان ما طعنه بخنجر أصابه في صدره, تعقب بروتان الجاني, وأمسكه وطعنه القاتل ست طعنات, وعاد القاتل مرة ثانية إلى كليبر وطعنه ثلاث طعنات ليجهز  عليه, نقل الجنرال كليبر إلى منزل داماس, وبدأت عملية البحث عن القاتل فوجدوه مختبئا في الحديقة الملاصقة لدار القيادة العامة, وساقوه  إلى دار أركان الحرب, وكانت علامات الجريمة ظاهرة  عليه, وهو ما يعرف في قانون الإجراءات الجنائية المصري بحالة التلبس .

لأن الحائط الذي أمسكوه بجواره كانت به الآثار الدماء, وكانت ملابسه ملوثة بالدم, كما عثروا على الخنجر والدماء  على نصله، وفي صباح اليوم الذي ارتكب فيه سليمان الحلبي الجريمة شاهده أحد الخدم، وشاهده أيضا ياور كليبر ديفوج، وكان يعتقد أنه من العاملين في المنزل.