كيف وصف الأمير الألماني رودولف الشرق في عهد الخديوي إسماعيل؟

قام الأمير رودولف، صاحب السمو الامبراطوري والملكي، وهو أحد الأمراء المهمين في آل هبسبرج برحلته في عهد الخديوي إسماعيل، وقد قطع مصر من أقصاها إلى أدناها، فزار الإسكندرية وسواحل مصر الشمالية، وفي أعقاب الثورة التي أحدثها محمد على الذي تولي الحكم عقب خروج الحملة الفرنسية من مصر، بدأ اهتمام الأوروبيين بمصر باعتبارها دولة جديدة تظهر على الأفق، وبدأت تتوافد على مصر وفود السياج والمستكشفين والرواد بقصد السياحة والاستكشاف، بحسب ما جاء في كتاب “حكايات عابرة” للكاتب حمدى البطران.

ففي عهد الخديوي إسماعيل جاء إلى مصر صاحب السمو الإمبراطوري الأرشيدوق رودولف من أمراء مملكة النمسا الذي ينتمي إلى آل هبسبرج زائرا , كانت النمسا وقتها تحت حكم الإمبراطور فرانسوا جوزيف, وقد سجل الأمير رحلته في كتاب بعنوان ” رحلة الأمير رودولف إلى الشرق ” وترجمة إلى اللغة العربية الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ ضمن مشروع الألف كتاب الثانية الذي قامت به الهيئة العامة للكتاب, وقد قام الدكتور عبد الرحمن الشيخ بتفنيد بعض المزاعم والآراء التي أوردها الأمير رودولف في الكتاب والتي تظهر مدي جهله  بالإسلام والمسلمين في تعليقات بالغة الدقة وتنم عن غيرة وطنية وثقافة عالية وعلم غزير للمترجم .

وقد زار مصر في وقت سابق الأمير الأرشيدوق مكسمليان النمساوي وأعجبته الآثار المصرية، فطلب إلى الوالي عباس باشا أن يهديه شيئا منها، وكان عباس الأول لا يقدر القيمة الفنية والتاريخية للآثار، ولا يشعر بواجب المحافظة عليها فأهداه الكثير منها.

ومن المحتمل أن الأرشيدوق مكسمليان هو نفس الأرشيدوق الألماني الذي تكلمت عنه الرحالة الإنجليزية إميليا إداوردز التي زارت مصر عام 1874في كتابها ” رحلة الألف ميل ” وذكرت إيميليا أنه جاء إلى منف شخص وصفته بأنه شاب غريب ومبجل في أن واحد، وهو أرشيدوق جاء إلى مصر للاستمتاع فحمل معه أربعة عشر تابوتا للعجل أبيس الذي اكتشف مارييت مقبرته في معبد السرابيوم بمدينة منف، وهي المجموعة المعروفة بمجموعة ميرامار والموجودة حاليا بمتحف فيينا، فقد حملها الإرشيدوق إلى الإسكندرية ومنها إلى مدينة تريستا اليونانية.

اما الأمير رودولف فقد كانت زيارته نزيهة ولم يكن طامعا في الآثار مثل سلفه مكسمليان، ولكنه كان يهوي صيد الحيوانات البرية والصقور والطيور الغريبة. وزار الإسكندرية وسواحل مصر الشمالية، القاهرة والفيوم، وتوغل في صعيد مصر حتي أسوان، فوصف رحلته النيلية والظواهر الجغرافية، وأبدي انبهارا بآثار مصر المقدسة على حد تعبيره، وعاد من أسوان ليمكث في القاهرة فترة أخري ثم يتوجه إلى بورسعيد، ويعبر قناة السويس، ويتجول في البحر الأحمر، وبعدها يتوجه إلى الشام ويزور بعض موانيها ويتجه إلى القدس الشريف، ثم يعود إلى فيينا، والرحلة ممتعة وتمتلئ بالمعاني والتلميحات ذات الدلالة.

بمجرد وصول الأمير إلى ميناء الإسكندرية أمر الخديوي إسماعيل أحد كبار الموظفين بمعيته بمرافقة  الأمير وهو عبد القادر باشا , يقول عنه الأمير رودلف أن نصفه كان تركيا والنصف الآخر عربيا .وانطلقت المدافع تحية للأمير وقام البحارة بإعداد الصواري , وكانوا يرتدون زيا له طابع عسكري على نحو ما , كما كانوا يضعون الطرابيش فوق رؤوسهم , وهبت عليهم روح الشرق القديمة الجميلة ممثلة في عزف السلام السلطاني التركي , ويبدوا انه كان شبيها بشكل ما بالسلام القيصري المجري, الذي جعل الأمير يتذكر هذا السلام الجمهوري الأخير, واحتشدت في الميناء كل طبقات المجتمع الشرقي منهم الغني والفقير, وكلهم يلبسون الملابس الفاخرة , يقول الأمير إنه كان بحاجة إلى ريشة فنان .

وضع الخديوي تحت تصرف الأمير بعض مركباته التي تجرها الخيول، كانت المركبات وخيولها إنجليزية، أما الخدم فكانوا بدون استثناء فرنسيين، وكان زيهم أوروبيا تماما ليس فيه من الشرق إلا الطربوش. أما خارج المركبات فكان هناك من يجرون دائما أمامها وهو يصخبون ويصيحون بلا كلل ولا ملل، وكانوا يلبسون ملابس غريبة بأكمام واسعة بيضاء وفي أيديهم هراوات طويلة، وكانوا نحال البنية وأقدامهم رشيقة.

لاحظ أن الأمير منذ أن وطأت أقدامه القاهرة أن مزدحمة بالناس، وأنها ممتلئة بالتجار، وتدور فيها حركة تجارية صاخبة. وكل الناس منهمكة في اعمالها، وكل شخص يحث حصانه أو حماره بكل ما يمتلكه من عنف، وكل شخص يدفع الآخر لينحيه جانبا، والكل يصرخ، ويضطر الغريب البائس في خاتمة المطاف لإلقاء نفسه بين ذراعي أول قادم.

لم يشاهد الأمير في رحلته أي فرق عرقي بين المسيحيين والمسلمين في سوق الحمزاوي الذي يمتلئ بالتجار المسيحيين واليهود في حي الجواهرجية، وفي حي النحاسين ,ويري الأمير أن البربر يشكلون جزءا من سكان مصر خاصة في الصحراء الغربية , وقد رآهم يعملون جنبا إلى جنب مع النوبيين في حراسة مراكز الصرافة وبيوت المال.

يعتبر كتاب الأمير رودلف عن الشرق بمثابة بحث متعمق في نشأة الديانات الثلاث الشرقية ومسيرتها على أرض فلسطين, فذكر أن اليهودية كانت الديانة الأولي ألتي دعت إلى عبادة الله , ويري أن المسيحية تمتد أصولها إلى الديانة اليهودية, وعندما ظهر الإسلام أمكنه أن يحافظ على الديانات السامية القديمة, ولأنه لم يهدف إلا أن يكون استمرارا لها بين الأجناس نفسها, استطاع لهذا السبب أن تكون له السيادة في هذه المنطقة, وأن ينتشر منها إلى الشعوب الأخرى، ولا ينسي رودلف أنه غربي وينظر بازدراء إلى العادات والتقاليد الشرقية .كما كان ينظر بازدراء خاص إلى الأقباط.