“في رحاب رائحة البارود” الله الذي في السموات

المكان: الكيلو 105 طريق القاهرة-السويس، أرض المستشفى الميداني رقم5..K الزمان: في تمام الساعة العاشرة ليلا في 24 أكتوبر

ما كان يعرف عن جنود الوحدة الطبية والضباط الأطباء إلا المشاكسة والهزر فور الانتهاء من المهام الثقيلة, عمومًا جنود القوات المسلحة أطلقوا علينا لقب “سلاح الكعب العالي”.. ما أن تمر السيارة المحملة بجنود المستشفى، ﺇلا ويطل جنود الأسلحة الأخرى من سيارتهم ويصيحون بحرقة: شوفوا عساكر سلاح الكعب العالي؟!

بينما خلال تلك الأيام –بعد العبور- الجنود غير مبالين بشيء البته.. صوت انفجار هنا, وأزيز طائرة هناك, ودوي مدفع بعيد, وآهات لا تنقطع داخل الدشم التي نقوم على تمريض المصابين فيها. مع بداية المعارك صام الجنود والأطباء, المصابون والمعالجون.. بغية ملاقاة ربهم تائبين, حتى بعد فتوى اباحة الافطار لشيخ الزهر مع واجب الجهاد.. بقي الجنود على حال صيامهم حتى بعد ثغرة “الدفرسوار”..

بعدها عشنا مرحلة جديدة، فالمستشفى أو الوحدة مهددة باقتحام قواتهم، بعد أن أبلغنا رجال الحراسة بما تلاحظ من بدء عمليات استطلاع مكثفة من بعض أفراد العدو على حدود وحدتنا، تمهيدًا لاقتحامها..

نحن مجموعة من الجنود والأطباء داخل مبنى من الدشم الخراسانية في حضن التبتين المتواجهتين، وسط رمال الجانب الأيمن من طريق القاهرة – السويس، كل مهمتنا هو استقبال المصابين واجراء العمليات الجراحية السريعة، وعمليات الكسور، والاسعافات الأولية للجروح.

انقضت خمسة أيام بلياليها.. لا سيارات الوحدة وعربات الاسعاف يمكنها الخروج من الوحدة، ولا سيارات الوحدات المختلفة التي تحمل بعض المصابين، يمكنها الدخول أو حتى الاقتراب من مدخل المستشفى المحاصر.. ولما كان عدد المصابين يتجاوز الخمسين, والعزلة مره, فلا المصابون يتناولون العلاج الواجب بعد نقص الأدوية، حتى ماكينة المولد الكهربائي كفت العمل بعد أن انتهى الوقود اللازم لتشغيلها، وبالتالي توقف عنبر العمليات الجراحية.. الخطر المحدق غلب على نشاط وعمل المستشفى.

كان قرار القائد.. نقل المصابين ﺇلى مكان آمن، عن طريق جبل عتاقة، الذي يبعد كثيرًا عن تناول فوهات مدافعهم وبنادقهم، وبما يشبه المعجز تمكن أحد الجنود من اصلاح ﺇحدى السيارات “الزل” وهي التي تكفلت بالمهمة حتى السويس..

مع غياب قرص الشمس أنجزنا المهمة، ولم يبق ﺇلا المهمة الأخرى التي لم تخطر على بال أحدنا، ﺇلا من القائد؛ أن يتم دفن الشهداء الثمانية حالا والآن ومع الظلمة والعتمة.. بينما راودتني رغبة أن أعيش لذة الألم العقلي.. الشرود يعفيني ولو قليلا من حرماني من الطعام والشراب.. مع ممارسة “الاسترخاء” و”التخيل” كما يفعل أهل “اليوجا”، وذهبت وحدي، أرتكن بظهري على صخرة كبيرة..

ما كانت ﺇلا دقيقة أو ساعة لعلها أكثر أو أقل، انتبهت بعدها على صوت القائد، يصرخ باسمي كي أساعده في مهمة الدفن.. دفن الشهداء قبل أن ننسحب من الموقع؟! ظننت أن الظلمة تخفي تجاهلي لطلبه، اكتفيت بالصمت؟! يبدو أن بعضهم فهم معنى صمتي.. هل من العيب أن أعترف بخوفي من دفن الموتى في الظلمة.. أو حتى في عز وضح النهار وفى الظهيرة؟!

صاح بالموافقة على اتمام مهمة الدفن في الظلمة طبيب الأسنان “بطرس” والجندي “أحمد”..
بدت المهمة مع الظلمة أشبه بمن يسبح في بحر بلا قرار، يسترشدون بأصواتهم، ولم يكف أحدهم الكلام طوال تنفيذ المهمة حتى يمكن متابعة زميله والمهمة، على الرغم من الدمعات المصلوبة في الخفاء تصنع غلالة فوق عيون الجميع ولا يراها أحد، وهو ما جعلها تتسربل وتخطو فوق الخدود سياله عند البعض.

كانت آخر المهام تلاوة مناسبة للدفن، فكان السؤال: لكننا لا نعرف ﺇن كان هذا الشهيد أو ذاك مسلمًا أم قبطيا؟

فكان ما همس به ونفذه أحمد وبطرس وكل السامعين أن قرأ المسلمين مع أحمد فاتحة الكتاب : (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم..)، وشارك أحمد العديد من الجالسين في الظلمة على الأرض. ثم قرأ بطرس والقبط من جنود الوحدة: (أبانا الذى في السموات. ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك..)..  وهو ما دفع قائد المستشفى يقول:  (كده ارتاح الشهيد.. مسلم كان أو مسيحي).

قصة قصيرة للكاتب والروائي الدكتور السيد نجم، من المجموعة القصصية “دوائر من حرير”..

 

Related Articles

Back to top button