“رفضته بسبب عائلتها”.. قصة زواج طه حسين من الفرنسية سوزان بريسو
عندما سافر طه حسين إلى فرنسا، تعّلم طه حسين كيف يرتدي زي الأوروبيين،، وتعلم كيف يدخل ساقيه في البنطلون, وساعداه في القميص, أمّا ما ضايقه فيه فكان رباط العنق، لذا تولى أخوه الذي سافر معه عنه تلك المهمة، ولمّا غادره أخوه، تولى صديقه إحضار رابطات عنق جاهزة. حلّتْ تلك المشكلة، بحسب ما قاله حمدى البطران في كتابه “طه حسين الذي رأى.. أيام ما بعد الأيام”.
كانت حياة طه حسين خلال العام الأول الذي سافر فيه إلى فرنسا مضطرب. ففي أثناء دراسته لم يستوعب دروس التاريخ، إذ لم تتكون له قاعدة في الدروس السابقة تؤهله لفهم تلك الدروس، وكان عليه أن يقرأ دورس المدارس الثانوية التي درسها الطلاب الفرنسيون في خلال وجوده في البيت. واختار لنفسه أستاذًا من معلمي المدارس الثانوية ليشرحَ في البيت ما فاته من دروس التاريخ.
تعوّدَ في البيت الذي استقرَّ به في باريس، مع عائلة فرنسية، أن يلقي عليه صوتٌ عذبٌ تحية الصباح، وتحية المساء في المساء، واعتاد طه حسين هذا الصوت، وحدث أن أصيبت صاحبة الصوت بمرض طارئ، فسأل عنها، وجلس وتحدث معها في موضوعات كثيرة، ووجد نفسه يقول لها:
أحبك وسمعها تجيب بأنها لا تحبّه، كان الصوت صوت سوزان بريسو، التي عرفت فيما بعد باسم سوزان طه حسين، رغم ما حدث عاد يسمع صوتها من جديد، فلم تمتنع عنه، ولم تُقبل عليه، تعاملت معه بحيادية، ذات يومٍ، كانت تقرأ له بعض الدروس، وبعد أن أنهت القراءة، أخبرته بأنها فكرت كثيرًا فيما أخبرها به عن حبّه لها، وأخبرته بأنها ستقضي الصيف في قرية جنوب فرنسا، ويظل هو في باريس، وعندما تعود ستخبره بجوابها.
وبعد شهر أرسلت إليه ليقضي الصيف معها ومع أسرتها، نستطيع أن نقول بغير تردّد أن قصة حب سوزان وطه من أعظم قصص الحب التي ستقرأها في حياتك.
كانت العلاقة الأولى هي إعجاب من سوزان بفكر هذا الشاب المصري طه حسين، مما دفعها لأن تساعده وتقرأ له الكتب والمراجع، وكانت البداية صداقة برباط سماوي لا تدركه سوى القلوب الصافية والعقول النهمة لمعرفة الحب، حيث كان يناديها طه حسين في ذلك الوقت “صديقتي” ولم يكن يدري أنّ الصداقة في عمقها حبٌّ شديد مسافته مسافة السماء وقربه قرب نظرة وشغف.
صارح طه حسين سوزان بحبه لها، ولكن الأمر لم يكن بهذه الصورة السهلة لسوزان، فقد كانت تدرك بأحكام عقلها بأنها ستتزوج من إنسان فاقد البصر، لذا رفضت حبه في البداية وابتعدت، لكنّ شعورًا ما في داخلها غيّر نظرتها، حيث اكتشفت أن قوة القلب أقوى من الأمور العقلانية، وأدركت سوزان أن للقلب طريقًا آخر مخالفًا للعقل، وللقلب أحكام ومجريات أخرى.
أعلنت سوزان لأسرتها رغبتها في الزواج من طه حسين الشاب المصري الذي أتى من نشأة وبيئة مختلفة تمامًا عنها، وكانت أسرتها من المتمسكين بعقيدتهم الكاثوليكية، وغير ذلك أنّه كفيف البصر أيضًا، فاعترضت أسرتها بشدة وظلت المحاولات لإقناعهم بإتمام ومباركة هذه الزيجة، وكان لسوزان عمٌّ يعمل قسًّا كاثوليكيًّا بالكنيسة، جلس مع طه حسين وانبهر به، واستطاع أن يقنع أهلها بهذه الزيجة، وتمّت بالفعل.
زوجٌ أجنبيّ، أعمى، ومسلم، إنه ضربٌ من الجنون! بتلك الكلمات وصفت أسرة سوزان بريسو رفيقة درب عميد الأدب العربي طه حسين رغبتها في الزواج منه لاختلافهما كليّةً، واستنكرت الأسرة أن تتزوج ابنتهم بشاب غريب وأجنبي وأعمي ومسلم لكنها حسمت أمرها قائلة:
كنتُ قد اخترت حياةً رائعة، وليس ثمة ما يدعو للخجل، تزوجا بالفعل عام 1917 وسط ظروف صعبة في ظل الحرب العالمية الأولى، عن تلك الأوقات تقول سوزان:
“لقد تعلمتْ في تلك الأيام أن تأخذ نصيبها من كل المِحَن التي اختصّت بها الحياة الرجل الذي كانت تحب، الجسدية منها أو المحن الأخرى. كان طه حسين قد ابتدأ عامه بالاستعداد لامتحان الليسانس، وكان يريد أن يحصل على دبلوم الدراسات العليا. واستأذن الجامعة في الحصول عليها ونيل درجة دكتوراه الدولة في التاريخ، فكتبت إليه الجامعة تأذن له بنيل الدبلوم إذا استطاع بعد الليسانس وتعفيه من دكتوراه الدولة في التاريخ لأنها تطيل إقامته في أوروبا وتكلف الجامعة من النفقات ما لا تطيق، وقد أجّل الامتحان الشفهي في الليسانس إلى ما بعد زواجه بمحبوبته سوزان، التي كانت تساعده في امتحاناته. وقد رزق طه حسين بصبية رباها وزوجته واحتفظ بذكرياته حيّة في هذه السيرة الذاتية التي تتميز بأسلوب فذّ وعمق التعبير.
أعدَّ طه حسين رسالته للدكتوراه عن “الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون” وحصل بها على درجة الدكتوراه، ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا في اللغة اللاتينية، كما تمكن من فهم الأدب اليوناني واللاتيني القديم والأدب الفرنسي الحديث، ثم عاد إلى بلده عام 1919م، وأصبح أستاذًا في الجامعة المصرية.
اعتاد طه حسين هذا النوع من التفكير، وتدفق تيار الوعي في عقله، كلما جلس وحيدًا في سفرياته. كانت سفرياتُه كلّها بالباخرة، كان يقضيها منطويًا على نفسه، لا يتكلم مع أحد، ولا يكلمه أحد إلا إذا كان رفيقًا له في سفره أو يعرفه سابقًا.
لظروف خاصة بطَهَ حسين لا يستطيع السير مستقيمًا في باخرة تتموج على سطح البحر، كما أنه من الصعب على رجل كفيف كطه حسين أن يحفظ توازنه على سطحها واقفًا أو ماشيًا، كما أنه لا يرتاد مطاعمها ولا دور اللهو فيها للسبب نفسه. واعتاد أن يجلس في مكانه المخصص له ولا يبرحه، كما أنه أوصى بأن يرسلوا له طعامَه وشرابَه في قُمرته ليأكله بمفرده، وبطريقته الخاصة بالطعام والشراب. هذه المرة كان السفر بصحبة سوزان له طعم آخر في وجود الزوجة والحبيبة.
كان غارقًا في أفكاره كما اعتادت أن تراه في كثيرٍ من الأحيان، إنها تدرك أنه يفكر في مصر التي يعود إليها بعد غياب أربع سنوات، ويفكر في شعبها الذي ثار هذا العام يطالب بحريّته واستقلاله، ولا شكَّ أنه يفكر أيضًا في الجامعة التي يعود الآن ليقفَ من طلابه فيها موقف أساتذتها منه، عندما كان يسعى إليها كل مساء من حجرته المتواضعة في حوش عطا في حي الأزهر مشتاقًا إلى العلم لا يرتوي، وهو أخيرًا يفكر في تلك المدينة من مدن الصعيد التي يعمل فيها أبوه، يتخيل لقاءَ أبويه له فيها بعد قليل، كما يتخيل لقاءهما لزوجته ولابنته للمرة الأولى.
كان طه حسين يفكر في ذلك كله فعلًا، ويفكر أيضًا في حياتهم التي ستبدأ حين يتركون الباخرة إلى الشاطئ؛ في الطريق الذي سوف يسلكه هو ليحقق ما يملأ صدره من الآمال، وفي زوجته التي سوف تبدأ في مصر حياة جديدة في بلد غريب عليها، وفي ابنته «أمينة» التي ستنطق في بلدها العزيز بأولى كلماتها، فقد أتمت الآن شهرها السادس عشر.
كعادتها سوزان، صارت له عينيه التي يرى بهما، وقفت ملاصقة له، تصِفُ له ما تراه، تصف له السماء والسحب القليلة فيها، وسطح البحر اللا نهائيّ، وبيوت الإسكندرية، وشاطئ البحر، وتذكر له أنّ الباخرة قد هدأت، وأخذ ركابها يستعدون لمغادرتها، كان طه حسين يتذكر كيف التقى بها، ووجد خيالَه يقوده إلى أيامه الأولى في البعثة.
كانت سوزان تشعر بالقلق. خشية ألا يكون أحدٌ من أهل طه حسين أو أصدقائه في انتظارهم. ليقودَهم عبر شوارع المدينة، إلى البيت الذي يحتضنهم. ويحمل عنهم الأمتعة التي أحضرها معه وكتبه الكثيرة، كانت تحمل ابنتها على ذراعها اليسرى بينما طه حسين يمسك ذراعها اليمنى، يستقبله حسن عبد الرازق باشا، محافظ الإسكندرية، وبلدياته من قرية أبو جرج القابعة على تخوم صحراء مركز بني مزار بجوار مغاغة، وواحد من أبناء أسرة عريقة من أُسَر المنيا العريقة الثريّة.
يسأل طه حسين المحافظ في قلق عن تطورات الأوضاع، وما آلت إليه ثورة 1919 ويخبره المحافظ أن أهم أخبار الإسكندرية الأخيرة هي أن شابًّا قد ألقى قنبلة في محطة الرمل على سعيد باشا رئيس الوزراء في الشهر الماضي، وقد انفجرت القنبلة ولكن رئيس الوزراء لم يُصَبْ بسوء، وطلب سعيد باشا إلى السلطات أن تعامل الجاني بالرأفة لأنه يقدِّر كيف تغلي نفوس الشباب في هذه الأوقات.
أمّا أهم أخبار مصر فهي أن بريطانيا ما زالت مصممة على إرسال بعثة برئاسة وزير المستعمرات لورد ملنر إلى مصر رغم اعتراض رئيس الوزراء سعيد باشا واستقالته. وبريطانيا تعلن أن مهمة البعثة هي بحث أسباب الاضطراب وعدم الاستقرار في مصر، واقتراح الأنظمة التي من شأنها أن تهدّئ الحالة فيها، وذلك كله في ظل الحماية البريطانية التي فُرضت على البلاد منذ نوفمبر ١٩١٤.
كان طه حسين قلقًا بشأن التخريب الذي أحدثه المتظاهرون في وسائل المواصلات والطرق، فسأل المحافظ عن حالة المواصلات وقطارات السكة الحديد، فهو يريد السفر إلى القاهرة، ومن هناك إلى كوم أمبو ليرى والديه الذين لم ينقطع عن التفكير فيهما طيلة السنوات الأربع الماضية، والمحافظ يطمئنه، فقد استفسر وتأكّد من سلامة المواصلات بين الإسكندرية والقاهرة، وكذلك بين القاهرة وكوم أمبو، ويخبره المحافظ أنّه سيقيم في منزله الخاص، فترةً حتى يستريح من السفر.