دور النساء المصريات في الحملة الفرنسية 1-3

ستظل الحملة الفرنسية على مصر 1798 منعطفا تاريخيا في حية مصر، ولكنها في نفس الوقت تشكل مجدًا خاصًا لأولئك الذين قاموا بها، وستظل كذلك مصدرا لكثير من المؤلفات التي تتناول حياة قوادها. والذين ظلوا على قيد الحياة من الفرنسيين بعد عودتهم من مصر يحكون للناس ويكتبون في الكتب ألوان من الحرمان لا تخطر على بال وعن الرجال الذين يدوس بعضهم بعضا في وحشية قاتلة من أجل قطرة ماء؟

وبحسب ما كشف كتاب “حكايات عابرة” للكاتب الكبير حمدى البطران، كانت الحملة الفرنسية تتكون من 54ألف مقاتل لم يكن ينقص حملة مصر الغرابة والشذوذ عن المألوف فبالإضافة إلى الجنود جاء 167 عالما من بينهم علماء في الرياضة والفلك والعلوم الطبيعية والهندسية وعدد من الأدباء والكتاب ومترجمين وفنيين طباعة وموسيقيين، وعدد كبير من الموظفين الإداريين من بينهم عدد من الموظفات. صرح لهن رسميا بمرافقة الحملة.

كان هناك تعليمات مشددة بمنع النساء من الإبحار مع أزواجهن أو عشاقهن، مع أنه كان من المألوف أن ترافق النساء الجيوش أثناء الحروب الأوروبية، كما حدث مع الحملات الصليبية على سواحل لبنان وسوريا. غير أن تلك التعليمات التي تقضي بمنع النساء من الإبحار لم تكن مشددة بالقدر الكافي مما ساهم في اختراق هذا الحظر. ونجحت أكثر من ثلاثمائة امرأة من اختراق هذا الحظر.

فقد تمكن الجنرال فورية من تهريب زوجته معه، وكانت سيدة إيطالية لطيفة شديدة الحيوية، كما نجحت أخريات في التسلل إلى البوارج الحربية متخفيات في ملابس الجنود العسكرية، كما فعلت مدام فورية التي رفضت أن تترك زوجها الملازم فورية بمفرده لمصيره المجهول، وتسللت معه إلى الباخرة. كانت مدام فورية جميلة في العشرينات شقراء. غير أن فوريه ندم على تلك فيما بعد.

كما رفضت جوزفين زوجة نابليون بونابرت قائد الحملة أن تصحبه، وفضلت أن تبقي في فرنسا بالقرب من عشيقها مسيو شارل. ولكنها مع ذلك وافقت على ذهاب ابنها أوجين مع زوجها بونابرت، عندما وصل الفرنسيون لأول مرة للقاهرة في يوليو 1798كانت القاهرة خاوية تماما، وامتلأت شوارعها باللصوص والرعاع والقطط والكلاب الضالة والنسوة العجائز، أما المماليك وزوجاتهم وجواريهم فقد هربوا إلى الأرياف هربا من الفرنسيين، وكان البدو فبي انتظارهم،

وظهر الأوروبيون والمالطيون الذين كانوا قبل وصول الفرنسيين، وظهرت مواهبهم في الاتجار في كل شيء ابتداء من الخمور حتى بيوت البغاء والمقاهي. يقول الجبرتي عن تلك المقاهي “، اجتمع الناس للجلوس وللسهر فيها حصة من الليل، فاستأنسوا بالاجتماعات والتسلي بالخلاعات” ووافق ذلك هوي العامة لأن أكثرهم مطبوع على المجون والخلاعة وتلك هي طبيعة الفرنسية. فصاروا يجتمعون عنده للسمر والحديث واللعب والممازحة ويحضر معهم الضابط الذي كان المالطي ترجمانه، ومعه زوجته وهي من أبناء البلد المتزوجات ”

كان الجبرتي يشير إلى أحد الضباط الفرنسيين وقد اتخذ لنفسه زوجة مصرية، وكان يصحبها معه في تلك المقاهي الخليعة. ولم هذا الضابط الوحيد الذي تزوج بمصرية، فقد درج الفرنسيون سواء كانوا متزوجين في بلادهم أو عزابا على اتخاذ زوجات مصريات، كان هناك عدد كبير من الضباط الفرنسيين لا يستطيعون البقاء بدون زوجات أو على الأقل امرأة. وتولت النساء من اللاتي رافقن الحملة سرا من مساعدة هؤلاء الضباط على حل مشاكلهم الجنسية.

غير أن عددهن لم يكن كافيا، وبعضهن كن حكرا على أزوجاهن وعشاقهن، وكان من بينهن عدد من المراهقات بالإضافة إلى معدومات الجمال والجاذبية، أما بقية الضباط فقد لجأوا إلى محلات البغاء التي أدارها المالطيون والأجانب والفاسدين من أبناء البلاد والتي أسموها ” التيفولي “.

وقد تم تسميتهن ” سيدات فرنسا “, وكن يقمن بالترفيه عن الجنود في ” التيفولي ” مهو ا لمسرح الذي أعدوه، ولعل تسميتهن سيدات فرنسا ترجع إلى محاولة بعض نساء الضباط الدخول إلى أحد الأماكن المحظورة للتعبير عن سعادتهن باتفاق فرنسا مع تركيا لوقف القتال وإنسحاب الفرنسيين، رفض الحارس دخولهن، وهو ما أثار غضبهن، ورحن يشتكين مر الشكوى من قلة الاحترام الذي لاقينه، وعندما أخبرن الحارث أنهن لسن غرباء، إنهن ” سيدات فرنسا ” سيدات القلوب، لم يخشين منافسة خطيرة في مصر، وكان دائما الزمام بيدهن، فما كان من الحارس إلا أن أجابهن محييا بسلاحه، ومن يومها أصبحت تلك التسمية علامة مسجلة، وسرت في الجيش كله.

يقول الضابط جوزيف ماري مواريه: هؤلاء السيدات اللاتي تبعننا إلى مصر لا يعادلن جمال كليوبترا، ولكنهن لم يكن على الإطلاق أقل منها تأنقا، لقد علموا يقينا أن الفرنسيين لن يقعوا أبدا في غرام نساء مصر للأسباب التي شرحناها آنفا. الم يقع جنرالنا السابق في هذة الشراك حينما أسرت امرأة أحد ضابط سلاح الفرسان فؤاده بعض الوقت. وقد نال الزوج بالطبع من الحب جانبا، فأغدق عليه من النعم، ولم يطل انتظاره للترقية، ولتفادي وضعه المحرج في كل الأحوال عهد إليه بمهمة شرفية لدي الحكومة الفرنسية، بينما أبحر من هو إلى تولون، كان هناك بالطبع من يمضي الليالي في مواساة زوجته الحسناء المكروبة، على أية حال لم تكلفنا هذه النزوة ما كلفنا إياه حصار عكا.

يصف الجبرتي ما حدث من تقليد المصريين للفرنسيين فيقول ” لما حضر الفرنسيس إلى مصر مع البعض منهم نساؤهم , وكانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه , لابسات الفستانات والمناديل من الحريرات الملونة, ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة , ويركبن الخيول والحمير , ويسوقونها سوقا عنيفا مع الضحك والقهقهة, ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة , فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء والأسافل والفواحش , وتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الموال لهن, وكان ذلك التداخل أولا مع بعض احتشام , وخشية عار, ومبالغة في إخفائه, فلما وقعت الفتنة الأخيرة في مصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها , اخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات , وصرن مأسورات عندهم فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهم في كامل الأحوال , فخلع أكثرهم نقاب الحياء بالكلية , وتداخل مع المأسورات غيرهم من النساء الفواجر .

كانت الغنائم التي تركها المماليك من النساء والجواري البيض تكفي، فقد كانت السبايا من الأرمينيات والكرجيات تؤخذ رأسا إلى كبار القواد.

يقول الجبرتي ” اما الجواري السود فإنهن كن أشد رغبة والاستعداد من الأرمينيات والكرجيات البيض، ولما علمن رغبة القوم في مطلق الأنثى ذهبن إليهم أفواجا، فرادي وأزواجا ونططن الحيطان، وتسلقن إليهم من الطيقان، ودلوهم على مخابئ أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك “.

وأخذ النساء يظهرن، ويصالحن على أنفسهن بأموال طائلة، ذكر الجبرتي أن زوجة رضوان بك- أحد كبار المماليك- ظهرت من مكانها الذي كانت تختبئ فيه… وصالحت على نفسها وبيتها بثلاثمائة وألف ريال فرنسي، وأخذت منهم ورقة بهذا الأمان، وألصقت الورقة على باب بيتها، , ولكن الفرنسيين بعد ذلك طلبوا تفتيش بيتها . وذهب إليها جماعة من العسكر ومعهم ترجمان، فقالوا لها: لقد بلغنا أن عندك أسلحة، ونريد البحث عنها.. فأخبرتهم أنه ليس عندها سلاح.. فقالوا: لابد من التفتيش.. ففتشوا، ووجدوا ملابس ثمينة جدا لزوجها وأمتعة غالية.. قال الجبرتي: ” ثم نزلوا إلى تحت السلالم، وحفروا الأرض، وأخرجوا منها دراهم كثيرة، وحجاب ذهب في داخله دنانير “. أخذوا الدنانير والسيدة وانصرفوا، ومكثت عندهم في الاعتقال هي وجواريها ثلاثة أيام، ولم تعد إلا بعد أن اشترت لنفسها منهم أمانا جديدا بمال جديد.

وذكر الجبرتي أيضا أن ” الست نفيسة ” زوجة مراد بك، ظهرت وصدقتهم، وصالحت على نفسها وأتباعها بمبلغ قدره عشرون ومائة ألف ريال فرنسي، وبعد فترة من الزمن أرسلوا إليها يطلبون منها إحضار زوجة عثمان بك الطنبرجى.. ويتهمونها أنها تخفيها في منزلها، أو في مكان ما.. وهكذا انقلبت مهمة جنود الجمهورية الفرنسية لا إلى البحث عن جنود المقاومة السرية، أو البحث عن القواد المختفين، بل إلى البحث عن النساء، لكي يرغموهن على شراء الأمان لأنفسهن بالمال..

فأرسلت فورا تستنجد بشيوخ الأزهر، فحضر لها بعض الشيوخ على عجل. ولم يتمكن الجنود اللصوص- أمام الشيوخ- أن ينهبوا شيئا مما وجدوه في القصر، ولم يجدوا السيدة المزعومة، فاغتاظوا وقرروا أن يعتقلوا صاحبة القصر التي صالحت على أمانها بالمال من قبل، فحاول الشيوخ أن يمنعوا هذا الاعتقال، فأبوا وأصروا على أخذها. وهنا لم يجد الشيوخ الفضلاء بدا من مرافقة السيدة الكريمة إلى معتقلها، وهم مذهولون من أن يروا النساء يعتقلن لأول مرة في تاريخ مصر بدون سبب وعلى هذه الصورة المهينة…

ونظر القائم قام ” دبوى ” قصتها، فلم يثبت عليها شراء مما اتهمت به… فطلب الشيوخ إطلاق سراحها، ولكن القائمقام رفض أن يفرج عنها ولفق لها تهمة جديدة، هي أنها أرسلت أحد الخدم إلى زوجها المملوك مراد بك بملابس وأمتعة، ووعدته إذا نجح في الوصول إليه أن تكافئه مكافأة حسنة، ولكن الجنود قبضوا على الخادم قبل أن يؤدى مهمته، واعترف لهم بكل شيء… فأنكرت السيدة ذلك الاتهام الجديد بشدة، وطلبت مواجهتها بهذا الخادم، فوعدوها بذلك.. ومضت الساعات وانتهى النهار، ولم يحضر الخادم المزعوم… وهنا طلب المشايخ إطلاق سراحها.. ولكن القائمقام ” دبي ” رفض ذلك بشدة. وعاد المشايخ إلى طلب الإفراج، على أن تحضر إليهم في اليوم التالي، وضمنوا له ذلك. ولكن القائد الشهم رفض رجاءهم مرة أخرى.

وعز على المشايخ أن تهان سيدات مصر هذه الإهانة البالغة، فعرضوا على القائد أن تذهب هي لتبيت في بيتها ويبيتوا هم عنده عوضا عنها، وضمانا لها… ولكن الضابط رفض أن يقبل هذا العرض النبيل. وظل المشايخ يعالجون الأمر معه بكل وسيلة ولكنه رفض، فلما يئسوا منه تركوها ومضوا وأرسلوا إليها بعض كرائم السيدات المسلمات ليقضين الليل معها… وسمع نساء الفرنج المقيمات بمصر هذا التصرف الدنيء، فذهب بعضهن وانضممن مع النساء المسلمات في المبيت مع السيدة الكبيرة في معتقلها.

ولما أصبح الصباح ذهب كبار المشايخ إلى نابليون بونابرت نفسه، وكلموه في الإفراج عن السيدة التي باع لها الأمان بالمال من قبل… فرضي قائد فرنسا العظيم أن يطلق سراحها، ولكن بعد أن يبيع لها الأمان مرة أخرى بالمال! وحدد بنفسه المبلغ: ثلاثة آلاف ريال، فدفعتها السيدة وانصرفت.

قال الجبرتي: ” وذهبت إلى بيت لها مجاور لبيت القاضي، وأقامت فيه، لتكون في حمايته “.