دار الجد و الصبي

دار جدي، كانت كما كل دور القرية.. طينية، ضيقة، وتسع الجميع! ما يلزم كلما ضاقت حجرة بقاطنيها تلفظ أحدهم، غالبًا تبدأ بالصبية ثم الرجال. فيرتمي إلى جوار الباب بالحوش الضيق، ويبقى سعيد الحظ، من ينام فوق الفرن الطيني القائم هناك، خصوصًا ليلة الخبيز، ولأنني صغير فلا تبالي النسوة الحديث الجريء في حضوري، ولأنني خبيث مثلهن أشاركهن في صمت، لحظة اقتحام أحد رجال الدار وهو يسحب زوجته من بينهن سحبًا، ثم يفرغ الغرفة من العفاريت الصغار مثلي، ويدفع بابها بقوة، إعلانًا عن رجولته التي أفهمها على صغر سني.
أخبرتني جدتي يوما وهي مبتسمة تقول: (من يوم ميلادك يا “بندق” ما كنت تبطل صراخ وبكاء لأسباب لا نعرفها، وكنت أطمئنهم: العيل الباكي، عفي وشديد..)
من شدة اهتمام جدتي بي، بدأت لسنوات تقيس طولي بحافة الزير، ثم تقول: (يا جماعة، لم يصل طوله حافة الزير، أصبروا عليه!)
أكثر ما كان يدهشني، أن تقولوا عليﱢ: (لم نر مشاجرة بين الأولاد، إلا عندما بلغ طول “بندق” حافة الزير).. وهو ما شجعني بعدها أن أعلن نفسي زعيمًا على كل أطفال العيلة!
لن أنسى ما كان بيني وبين جدي!
يوم أن حبسني في الزريبة (الحظيرة) مع الجاموسة، فما كان مني ﺇلا الصراخ والولولة، يظن من يسمعني وكأنه وضع السيخ المتوهج في عقر أذني، وما أن يخرج جدي ويحكم باب الزريبة، أكف الصياح. بدت عليهم الحيرة، خصوصًا بعد أن توردت خدودي وازداد بريق العينين!
ذات مرة فتح جدي باب الزريبة فجأة، لم أنشغل إلا بحك فمي بكم جلبابي، لم أنجح في مسح قطرات اللبن من فوق سحنتي.. فعرف الجميع السر، ضبطني الجد وأنا ألقم فمي حلمة الضرع، وأنا أحلب الجاموسة بكفي المتسخة وأشرب لبنها كله!
فكرة أخرى شغلت جدي، حبسني فوق سطح الدار وحدي، بجوار كومة “الجِلة” أو روث البهائم المخلوط بالتبن، وقد جففوه، يشعلون به نار الفرن. يظن جدي أنه يعاقبني، بينما كنت أعتلي الأسطح المجاورة.. وأحمل المسروقات من فوقها، ثم أرميها لصديقي “غريب” لبيعها في السوق.
حتى كانت المرة الملعونة.. ليلة أن ترصدني جاري “عزازى” وضبطني، صرخ صرخة أيقظت الملائكة التي في السماء. تجمعوا حولي، وعجزت أمي أن ترحم قفاي وردفاي من ضربات جدي.
عدل جدي من فكرة الحبس فوق سطح الدار، أصدر أمرًا بطردي خارج الدار، مع صلاة الفجر حتى ما بعد صلاة العشاء، مع شدة وهج أشعة الشمس أو لفحة البرد. العقاب الجديد، أتاح لي ما لم يتح له من قبل. زادت صداقتي مع “غريب”، أصبحنا توأمان لا يفترقان. وبدأنا رحلة جديدة من الشقاوة والعفرتة، فلا نعود إلى الدار ليلا أو لأكثر من ليلة، فلما أعود وبين ذراعاي لفافات الحلوى، من محال المدينة القريبة. لم يسألني أحدهم من أين أتيت بالفلوس؟ ولا كيف تعيش يومك؟!
كان يوم شم النسيم يومًا مشهودًا، قرر جدي شراء أكلة “فسيخ” مخزن ومبطرخ، سافر “محرز” زوج “زكية” عمتي، وعاد فخورًا بما أنجز، التهموا الفسيخ والبصل الأخضر التهامًا، بعدها احتسوا الشاي، تساءل أحدهم: (أين باقي الفلوس يا محرز؟)
بانفعال وغضب، أشعل سيجارة، كشر في صمت.. بدورهم نظروا إلى بعضهم البعض، في صمت، لم يعقب أحدهم.. تكفلت بالمهمة وقلت:
(باقي الفلوس في الصندوق الأسود الخشبي، بجوار فرشة نوم “عم محرز”!)
الجمتهم الدهشة، تبادلوا النظرات، مع الصمت، نهض جدي واختفى، دقائق وعاد بين أصابعه مبلغًا لافتا من المال. لم يتفوه، قال زوج الابنة: (فلوسي يا حاج) ثانية علقت أقول: (رائحتها فسيخ يا سيدي، لا تصدقه، الفلوس رائحتها فسيخ!)
تشممها الجد، تابعه كل الرجال بما فيهم “محرز” نفسه. تأكد لهم ما نطقت به؟! شغلهم السؤال: (لكن كيف عرفت رائحة الفلوس؟ الفلوس داخل كيس قماشي، والكيس داخل صندوق خشبي مغلق، والصندوق في حجرة مغلقة الباب!) وبقيت حكاية أنفي، سببًا للضحك كلما جمعهم مجلس.
انتشرت الحكاية، تعلقوا بي أو بأنفي، يسألوني وأجيب، يرجون حلا لمشاكلهم! بينما تعلقت بصاحبي “غريب” أكثر كثيرًا عما قبل.. معًا عرفنا أن للكذب فوائد تعوضنا عن لعنات العالم كله، حين نذهب إلى أم أحدنا، ونبكي، ننال من القبلات والأموال أكثر مما قبل!
ضقنا من السوق ومن زحام “كفر الدوار” ومن الناس. صنعنا خُصًا من عيدان البوص، داخله أصبح لنا عالمنا الجديد. وكانت فرصة أن نكتشف العالم من حولنا، لكن ليس قبل اكتشاف جسدينا.. ليس لأننا نجيد السباحة عرايا، فالمياه ساتر شرعي، لأننا لا ندري سر ما بها تجعلنا نضحك! أهم ما عرفنا أن ليل قريتنا لا يعرفه أحد!
كأن للقرية أناسًا للنهار وأناسًا لليل.. وأن الحياة تحت وطأة الشمس، غيرها تحت هالات القمر.. حتى اقترح “غريب” على أذني ذات ليلة: (بدى أسألك.. توافق أن نقضي حياتنا كلها في الليل، ونعيش في الخص، نصيد السمك ونسرق من الغيطان، وناكل لما نشبع في النهار؟)
في تلك الليلة علقنا إحدى السلال على حافة النهر، وفى الصباح رفعناها، وكم ضحكنا ونحن نرى الأسماك الغشيمة التي دخلتها، وكانت وجبة سمك شهية.
ليلة بعد ليلة، أحط مع غريب فوق كل شبر في الكفر.. وفى ليلة من غير قمر، عطست وسعلت، فضحك صديقي وسخر كلما سرنا نحو الجهة القبلية. كانت لحظة مدهشة، قلت: أشم رائحة لم أعرفها من قبل، عطرها غريب، يشبه…)خلص غريب إلى حل عملي: (ما يضرنا، تعال نسير ناحية مصدر تلك الرائحة)وكانت أول ليلة عرفنا فيها “الغرزة” أو الوكر، حيث نصبة الخواجة “ينى” بحجة مساعدته دون مقابل، وافق فورًا، ليس لاحتياجه لنا، يخشى أن نفضح ما يدور داخلها. تكررت الزيارة والعمل في الليلة التالية.
بمضي الوقت والحق يقال، نلت أكثر كثيرًا من غريب، لأنني أقدم خدمة جليلة للخواجة، كأن أتشمم مقطوعات الحشيش وأحكم عليها، ما أدهش الجميع: مرة، “الحناء” المخلوطة بالحشيش كميتها كبيرة.. ومرة الصنف مخزن منذ زمن طويل.. ومرة ثالثة الفحم المشبع بالرطوبة لم يسو القطعة الصغيرة جيدًا، فانقطع نفس الزبائن، وتعكر مزاجهم.
هناك قابلت الخفير “عبد العال” بنظراته التي لم تعد ترهبنا، في البداية ترددنا الاقتراب منه. بصوته الخشن والفاظه المعروفة عنه والمكسوة بالسباب، أمرنا بالاقتراب وتغيير حجر “الجوزة”، تنافسنا في تنفيذ الأوامر.
بينما كان الخواجة الاجريجي، يبدو متجهمًا جادًا صباحًا، وهو يدير عمله أمام ماكينة الطحين! المفاجأة أن وجدته خلف النصبة في القلب من وكره يبدو ثرثارًا ضحوكًا..!
أكثر ما أدهشنا أن لمحنا أحدهم لا يحضر بانتظام، لكنه يحضر مرة واحدة في الأسبوع، وهو الوحيد الذي يرتدى بزة أفندية المدينة. في صوته رخامه، وفى عينه نظرة غريبة، وعلى جسده مهابة، عرفنا أنه “حمزاوي بك” ضابط البندر، فتحيرت إن كان من الأفضل الهروب. حسمها الخواجة ونظر نحوي مبتسما، فتوليت مهمة خدمته!
كانت المفاجأة حقًا، أن ينزرع بيننا فجأة العمدة “ريحان” بخطواته القصيرة المتعجلة، وبنفس عادته في الخطو والحديث، ثم يأمر الخواجة بإحضار ما يلزم، يسحب أكثر من كرسي “حشيش” على عجل، ثم يأمر بإحضار طلبه الخاص: (زجاجة من النيلة)، ويعنى زجاجة الخمر التي يخفيها في ملابسه، وأخرى يتجرعها على عجل، وفى جرعة واحدة أو على جرعتين.. بعدها ينهض سريعًا. وفى كل مرة، لا يلقى إلا تعليقا واحدًا من “ينى”: (ليلة سعيدة يا عمدة)..
يشوح العمدة بيده، ولا يبتسم، ولا يفهم الحضور إن كان سعيدًا أم غضبًا، أمر بسيط جدًا حيرني، وتحاورت مع غريب أسأله: (هو البنى آدم في الليل غيره في النهار؟!)يرد “غريب” وقد أصبح في موضع صاحب المشورة والرأي، يقول: (طبعا)”أدهش وأتابع: (لماذا؟)يا عبيط، لأن الدنيا عتمة).. كل أهل الكفر يعرفون مكان “الغرزة”، وما يدور فيها، أو تخيل ما يمكن أن يكون فيها ليلا، ولا أحد يعقب أو يسعى للحديث عنها، وكأن الصمت أخفاها عن الوجود، أو يمكن أن يخفيها. لكل سببه، فضابط البندر يعلن صراحة أنه لم تصله بلاغات من أهل القرية، ولا حتى من العمدة نفسه، أن بالغرزة ما هو غير قانوني.. أو حتى توجد “غرزة” في الكفر؟!
العمدة يرى في الاقتراب من مشاكلها مشغولية لا داع لها.. وأهل القرية يستحون من كشف أفعال ما يتردد عنها همسًا بين النسوة، حين جلسات الخبيز والغسيل معًا على حافة النهر، عند طرح النهر، لأن لها حافة متدرجة نحو المياه، تحميهن من السقوط في المجرى.
وبينما شغلتنا علامات رجولية مبكرة، طغت على وجهينا؛ شعيرات الشارب، وغليظ الصوت، وبروز تفاحة آدم.. لم يبق سوى ما أسر به صديقي “غريب” إلي، تناقشنا لفترة طويلا، ومعًا انتهينا إلى قرار، أن نكتشف ذكورتنا أفضل؟!
قصة قصيرة للروائي والكاتب السيد نجم، من المجموعة القصصية دوائر من حرير..