كواليس مقابلة السلطان حسين كامل لـ طه حسين وتبرعه للجامعة بخمسين جنيهًا

كان طه حسين يقارن بين حياته القديمة وبين حياته الجديدة في تلك المدينة الجميلة باريس بعد السفر إليها، ويقيس الفرق العظيم بينهما، فيرى نفسه أسعد الناس وأعظمهم حظًّا من السعادة والنجاح، بدأ يتقدم في القراءة بتلك الطريقة الجديدة بالحروف البارزة، المعروفة بلغة برايل. ولكنه سرعانَ ما ضاق بها، فهو قد تعود على أن يتلقى العلم بأذنيه لا بإصبعيه، فضلًا عن ذلك لم تكن هناك كتبٌ مطبوعة بتلك الطريقة ليطّلع عليها، بحسل ما جاء في رواية “طه حسين .. أيام ما بعد أيام” للكاتب حمدى البطران.

بدأ حُسَين يكره طريقة برايل، أحسَّ أنه بحاجة إلى قارئ يقرأ عليه الكتب باللغة الفرنسية واللاتينية، في يومٍ من أيام الربيع، شعر أن الحياة بدأت تبتسم له ابتسامة تغيّر حياته تغيرًا شديدا؛ فقد عرف الحب والغرام الذي عرفه أصدقاؤه من قبله، كان الفتى يسمع صوتَ الفتاة التي كانت تقرأ عليه هذا الكتاب أو ذاك، وبدأ يستريح لصاحبة الصوت، ويتجاوب معها.

وذات يوم أخبره زميله المصري في البعثة، أن الجامعة تنبّئه بضرورة عودة طلاب البعثة إلى مصر وهذا بسبب إعلان الحرب، في رحلة العودة، قضى طه حسين وزملاؤه في الباخرة ستة أيام، ولما وصلا إلى ميناء الإسكندرية، كان عليهم أن يحصلوا على إذن لدخول بلادهم من الدولة المحتلة لأنها في حالة حرب، استمروا بالباخرة يومين في المياه الإقليمية، حتى أذنت السلطات لهم بدخول بلادهم.

بعد فترة من الزمن، أمضاها الفتى في مصر يشغل منصب أستاذ في هذه المدرسة أو تلك، انفرجت أزمة الجامعة وقابلوا السلطان حسين كامل، الذي أصبح حاكما لمصر في ١٩ ديسمبر ١٩١٤، ودعي بالسلطان حسين كامل الأول خلفًا لابن أخيه عباس حلمي الثاني خديوي مصر؛ لتخلفه فى الأستانة العلية لأمور سياسية تخصّ الحرب الأوروبية العامة، فقبض السلطان حسين على زمام السلطنة المصرية, ونظر فى أمور الرعية بعين الحكمة والسداد، واستبشر الناس فرحًا ومسرة بهذا الجلوس السعيد، وصار الشعراء والبلغاء يتبارون فى صوغ قلائد التهاني ودرر المدائح.

وتوافد على سراي عابدين وفود المهنئين أفواجًا وزمرًا من كل صوب، وأقسم بين يديه الوزراء ورجال الحكومة يمين الإخلاص والطاعة والولاء لذاته الكريمة، ثم أخذ ينظر فى شؤون البلاد بكل روية وخبرة ودراية رغمًا عن حوادث الحرب الأوروبية الكبرى، قبل ذهابه إلى باريس.

أنعم السلطان على كل واحد من أعضاء البعثة مبلغ خمسين جنيهًا، وفي لفته حضارية طلب منهم طه حسين التبرّع بهذا المبلغ للجامعة، ولكن علوي باشا رئيس الجامعة، طلب منهم أن يحتفظوا بأموالهم ليُنفقوها في باريس، ويستمتعوا بها.

وعندما ذهب ليستلم التذكرة من الشركة السياحية، رفضت أن تعطيَه التذكرة لأن الباخرة ستقف في طريقه لفرنسا بمدينة نابولي، وربما نزل منها طه حسين الكفيف، فلا يُحسن التجول بها. ولكن لطفي السيد والأمير أحمد فؤاد تدخّلا وحلّا تلك المشكلة، وأصبح عليه أن يسافر إلى بورسعيد ليستقلَّ سفينةً هولندية تعبر البحر إلى نابولي، من نابولي استقلوا القطار إلى باريس.

استغرقت الرحلة من نابولي إلى باريس، ثلاثين ساعةً كاملة قضاها طه حسين جالسًا على كرسيّه لم يتحرك، بدأ طه حسين يستعد لإكمال ما بدأه من دروس، ويستمع إلى ذلك الصوت العذب الذي ملأ عليه قلبه ووجدانه.

في تلك الفترة استقرّتْ حياةُ طه حسين في باريس وإن كان يعاني منها، وكان راتبه لا يتجاوز ثلاث مئة فرنك فرنسي، يدفع ثلثيه مقابل سكنه وطعامه وشرابه، ويدفع نصف الثلث الباقي أجرًا لسيدة كانت تصحبه من البيت للسوربون في الصباح والمساء، ليسمعَ دروسَ التاريخ على اختلافها. كما كانت تقرأ له بين تلك الفترة من روائع الأدب العالمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى