“حكايات عابرة”.. يكشف علاقة الفرنسيين بالبدو طوال أيام الحملة الفرنسية

بغض النظر عما توصف به الحملة الفرنسية من أوصاف استعمارية، فإنني هنا أتعامل مع الأثر الذي خلفته الحملة الفرنسية، وهو كتاب “وصف مصر ” باعتباره وصفا كاملا لمصر كلها، وهو ليس مثل غيره من الكتب التي كتبها الرحالة والمغامرون.

وبحسب ما جاء في كتاب “حكايات عابرة ” للكاتب حمدى البطران، دون الفرنسيون تفاصيل حياتهم في مصر ورحلاتهم إلى مختلف بلادها تدوينا دقيقا، صحيح أن المؤلفين من ضباط الجيش الفرنسي ومهندسيه، ولكنهم تركوا لنا وصفا للحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد وكل نواحي الحياة في مصر كلها. وبالتالي فإنني سأتناول جانب إنساني هو علاقة الفرنسيين بالعرب والقبائل العربية. التي كانت تشكل مركز القوة الثاني بعد الحكام المماليك، من حيث الضغط على أعصاب وحياة المصريين، وامتصاص أموالهم وخيراتهم.

وبالرغم من أن العرب قاموا الفرنسيين عند قدومهم من الإسكندرية، إلا أنهم عندما توطدت أقدام الفرنسيين بدأوا في مهادنتهم، بل والتعاون التام معهم.

في 24 ديسمبر 1800 رحل المهندس. ب. ب. مارتان، وهو أحد ضباط الحملة الفرنسية من القاهرة إلى الفيوم ومعه معاونه كاريستي والمملوك سليمان الكاشف.

كان المهندس ب. ب. مارتان قد استمع إلى حكايات متواترة عن أصل ولاية الفيوم من مصدرين معاصرين له.

المصدر الأول هو سيد احمد شيخ مدينة الفيوم أو بالمفهوم الحالي عمدة الفيوم ومعه بعض اقاربه.

والمصدر الثاني هو المملوك سليمان الكاشف الذي كان يتخذ من مدينة الفيوم مسكنا له.

استطلع المهندس ب. ب. مارتان رأي الشيخ سيد احمد، والمملوك سليمان الكاشف، حول رغبته في الدوران حول بحيرة قارون لمعرفة تاريخها واستطلاع جغرافيتها، ولكنهما حاولا إثناءه عن عزمه، وأكدا له أن العرب والبدو الذين يتجولون حول البحيرة ربما سببوا له متاعب كثيرة، حيث سيصبح هدفا لكل منهم على حده.

كما نصحوه بعدم التحالف مع قبيلة من قبائل العرب، فإن القبيلة الأخرى المعادية سوف تجعله هو وجنوده هدفا لها، باعتباره متعاونا مع أعدائها.

ولكن المهندس ب. ب. مارتان لم ييأس، وتفاوض مع إعرابي آخر هو الشيخ على بن ابو صالح، نجل الشيخ أبو صالح شيخ قبيلة السمالو الكثيرة العدد، والتي تحيط مضاربها ببحيرة قارون وإقليم الفيوم كله.

كان الشيخ على في الثلاثين من عمره ويقيم في الفيوم.

اما والده الشيخ أبو صالح فكان يقيم في المنيا وله ثلاثة أولاد وابن أخ، يتولى كل واحد منهم زعامة قسم من أقسام القبيلة المترامية الأطراف.

ويقيم الابن الثاني في أجروبة. أما الثالث فيقيم في قرية أبو جندير. ويقيم إبن شقيقه على عثمان في النزلة.

كما كانت قبيلة السمالو في ذلك الوقت، في حالة صراع وقتال مع عرب الفرجان في صحراء الإسكندرية والبحيرة، وعرب الضعفا في بني سويف وقريتي طامية وأبويط، وكانوا يشنون غاراتهم ويسلبون القري التابعة للسمالو.

لم يوافق الشيخ على نجل الشيخ أبو صالح على العرض الذي قدمه له المهندس ب. ب. مارتان بمجرد أن عرضه عليه، ولكنه أمهله فسحة من الوقت ليفكر.

تشاور الشيخ الشاب مع أفراد قبيلته. وأضمر أمراً ما.

وعندما قابله للمرة الثانية، طلب منه الشيخ على أن يجهز ثلاثين جنديا بأسلحتهم من البنادق الحديثة والبارود.

وفي المقابل تمكن مارتان من إقناع الشيخ علي، بأن يصطحب هو الآخر ثلاثين فارسا من أبناء قبيلة السمالو أتباع الشيخ على بخيولهم وحرابهم وسيوفهم.

لم يكن في سلطة المهندس أن يوافق على اصطحاب جنود غير مصريين تحت قيادته، دون الرجوع إلى قائد حامية ولاية الفيوم الفرنسي ” الكولونيل ابلير “، والذي كان يفتقر إلى القوات اللازمة للمحافظة على بقائه في الإقليم. وعلى ذلك رفض العرض الذي تقدم به مارتان.

كما أبلغ الشيخ علي، ب. ب. مارتان، أن الدوران حول بحيرة قارون محفوف بالمخاطر سواء من العربان أو فلول المماليك.

ولكن قائد الحامية اضطر في النهاية تحت حماس وإلحاح ب. ب. مارتان إلى الموافقة.

تحركت الرحلة، يقودها مارتان على فرسه واضعا البرنس الذي يرتديه العرب على ظهره، وغطى رأسه بطربوش.

منذ رحيل مارتان من الفيوم في صحبة الشيخ على تعامل فرسان السمالو مع القائد الفرنسي مارتان كما كان يتعامل معه شيخهم، وسلكوا نفس مسلك الشيخ على في سلوكه إزاء “لمدبر مارتان” كما أطلقوا عليه.

كان الشيخ على لصيقا بالمهندس الفرنسي، ولم يكن بتحدث مع أحد سواه، وكان يقص عليه بقصد – تسليته وإرضاءه – حكايات كان مارتان يجد مشقة كبيرة في تتبع تسلسلها، وكانت تلك الحكايات تشتت انتباهه لدرجة أكثر مما يود، إذ كان مارتان غارقا في ملاحظاته عن الطبيعة الصامتة حوله، بينما الشيخ على يقص عليه بطولاته، التي تغلب عليها حركات الفرسان العسكرية.

كان الفرسان من جانبهم يحاولون أن يدخلوا البهجة على قلبه، وتسليته بافتعال معارك ومبارزات وهمية، وكانوا في نهاية تلك المبارزات ينشدون عليه الأشعار التي لا يفهمها، وكانت مظاهر السرور التي يبديها لهم هي مكافأتهم على تلك البطولات.

كان مارتان هو الذي يبدأ إشارة التوقف للمبيت، وكان قد أعد مرتبتين صغيرتين، إحداهما للشيخ على والأخرى له، ولكنه لم ينجح أبدا في حمل الشيخ على ليتقبل المرتبة التي خصصها له، ولم يكن الشيخ على يقبل أيضا أن ينام داخل خيمة مارتان، وأكتفي بحصيرة بسيطة يطويها فوق الرمال خارج الخيمة.

 

وصلت الرحلة إلى قصر قارون. ووجد مارتان أن ليس قديما كالمعابد الفرعونية، وأطلاله لم يشوهها التخريب الذي فعله الزمن، ولكن التشويه الحاصل فيها متعمدا، كما وجد في مدخل القصر أحجار خشنة منحوتة على طريقة الإغريق.

وجد مارتان أن هناك رحالة آخر هو بوكوك قد حفر اسمه على أنقاض دعامات باب الدخول. وقام مارتان بحفر كلمات تفيد وصوله إلى القصر يوم 17 يناير 1801. كما وجد أن جدران القصر لا تزال منتصبة وقائمة.

غادر مارتان القصر في نفس اليوم متجها إلى المنيا.

كانت عينا مارتان تحدقان بلا انقطاع على مدار ثمانية وأربعين ساعة في ما يحيط به على الدوام من الرمال والأحجار والأشجار الشوكية الجافة في الصحراء، وانتابته لحظات شعر فيها بانقباض المسافر، لذا فقد شعر بلذة غامرة وهو يري على جانبي الطريق إلى المنيا الأشجار السامقة والمروج الخضراء المنبسطة كبساط أخر لا نهائي يشمل كل امتداد بصره.

قام مارتان بهذه الرحلة بمحض إرادته تحدوه رغبته العارمة في الاكتشاف، ولا شك أن أوروبيا آخر مهما كانت ظروفه المحيطة به لن يستطيع أن يقوم برحلة شبيهة برحلته.

ويمكننا أن نلتمس العذر لمارتان، لأنه سلك الطريق الصحراوي الموصل إلى المنيا مباشرة. وكان أغلب زوار الفيوم يسلكون الطريق الزراعي إلى بني سويف حيث تنتظرهم خضرة الوادي حول نهر النيل.

اقترب مارتان في حراسة الشيخ على وفرسانه من النزلة، حيث يقيم عثمان الابن الثاني من أبناء الشيخ أبو صالح، وقام فرسان الشيخ بتأدية التحية لفرسان شيخ القبيلة التي في الانتظار، وقاموا بألعاب فروسية على خيولهم.

لوحت الشمس وجه مارتان وبدا كأعرابي حقيقي بردائه البدوي الذي وصفناه، ونما له شارب كث كشوارب الشرقيين، وأحبه فرسان السمالو من خلال معايشتهم له وسموه ” مدبر السمالو ” أي مهندس ومنظم السمالو

أعد الشيخ عثمان العشاء لضيفه، وفي المساء تبادلوا ألعاب الفروسية، وبعد العشاء مباشرة خلدوا إلى النوم، وتسلم الشيخ عثمان مهمة حراسة الشيخ.

في التاسعة والربع صباح 9 يناير 1801 غادر مارتان النزلة، وسارت خيولهم تتهادي وسط الأراضي المنبسطة حيث بدأت نباتات القمح الصغيرة والبرسيم الأخضر تلمع تحت ضوء الشمس بلون يشبه القطيفة الخضراء،

بعد ساعتين كانوا على مشارف أبو جندير، ويقول مارتان إنها قرية بالغة الارتفاع عن سطح الأرض، وتقع إلى الجنوب الغربي من النزلة، وأنه – أي مارتان – استطاع أن يري مدينة الفيوم والنزلة، فقد كان الجو صافيا ولا عائق أمام البصر ليصل إلى منتهاه.

كانت القرية مرتفعة والأرض التي حولها مرتفعة أيضا، لذا كانت المياه التي تصل إليها تتدفق إلى السهل المنبسط من منحدر يبلغ انحداره حوالي عشرة أمتار مما يشكل شلالا طبيعيا يندر وجوده في مصر، وأقترح المهندس مارتان أن تقام آلات رافعة تحركها مساقط المياه للاستفادة منها في الري، لم تكن مولدات الكهرباء الهائلة قد اكتشفت بعد.

لم يمكث مارتان وجيشه الصغير في – أبو جندير – سوي ربع ساعة فقط تناول فيها مارتان القهوة مع الشيخ عثمان في خيمته، وواصل سيره عن يمينه الشيخ على وعن يساره الشيخ عثمان نجلي الشيخ أبو صالح شيخ قبيلة السمالو، في تمام الثانية عشرة والربع كانوا يخترقون الصحراء مرة ثانية.

وفي الساعة الواحدة إلا خمس دقائق وصل مارتان إلى تل مرتفع يسمونه وقتها ” كوم الغرق بتاع الملط ” ولم يتحدث أحد عن تلك التسمية الغريبة، وربما سمعها هكذا من أحد الأهالي أم أحد الشيخين المرافقين له. صعد مارتان التل بحصانه ومن فوق قمة التل تمكن من رؤية بحيرة الغرق.

كانت الصحراء أسفل التل عبارة عن طبقة من الرمال تغطي طبقة طينية أكثر عمقا، ويمكن بنزع طبقة الرمال أن تبدو الأرض الزراعية واضحة وصالحة للزراعة بمجهود يسير، كما لاحظ مارتان أن الأرض تنمو فيها بعض الأشجار والنباتات العشوائية المتنوعة. وكانت تجري في وسط هذا الوادي ترعة صغيرة.

شاهد مارتان في تلك المنطقة قصرا لأحد المماليك تحطم عن آخره، ربما من المعارك الحربية التي دارت أثناء مطاردة الفرنسيين لصاحبه، أو هدموه بعد أن فر منه. ولم يري في تلك المنطقة التي سماها مارتان تجاوزا مدينة الغرق أي شجرة أو نخلة كبقية قري مصر. وبدت له في مظهرها العاري موحشة وكئيبة ” تبعث الرجفة في القلب “.

سمع مارتان عن عرب الوزازي من رفيقيه العربان، وهم عربان تابعون للسمالو وأخبراه أن سمعة هؤلاء العرب كلصوص تفوق الوصف., وأنهم يحتالون على ضحاياهم بكافة وسائل الحيل الغريبة، ونصحاه بالابتعاد عنهم وتجنبهم، ويقول مارتان إنه لا يدري ما إذا كان ظهور الشيخ على والشيخ عثمان هو الذي كبح جماح عرب الوزازي.

ومهما يكن من أمر فإنه خرج من منطقة نفوذهم دون أن يحتالوا عليه ويسلبوا منه شيء. وكان لعرب الوزازي شيخ هو الشيخ كرماني حدث مارتان عن ” المدبر جيرار ” والذي ربما مر من هذا الطريق لمطاردة المماليك. وهو المهندس والضابط الفرنسي، والذي شاء حظه فيما بعد رحيل الحملة الفرنسية أن يشرف على المصريين من أفراد البعثة العلمية التي أرسلها الوالي محمد على إلى باريس وفيهم الشيخ رفاعة الطهطاوي.

وصل مارتان إلى قرية سنورس يوم 10 يناير في الساعة الثامنة إلا ربع صباحا، ومنها سلك طريقه إلى المنيا التي وصلها في العاشرة والربع من يوم 10 يناير 1801.

وصف مارتان لحظة وصوله إلى ” قرية المنيا ” حيث يقيم الشيخ ابو صالح شيخ السمالو ووالد على وعثمان المرافقين لمارتان . وأرسل أبو صالح ابنه الثالث جروبة لملاقاة مارتان وتهنئته بسلامة الوصول.