يقوم موقع “مباشر 24” خلال هذه الأيام بنشر قصة أديب نوبل الدكتور طه حسين بحسب ما جاءت في رواية “طه الذي رأي..أيام ما بعد الأيام” للكاتب حمدى البطران، الذي قال في البداية:”لنبدأ حكايةَ العميد، منذُ أن عادَ من بعثته في الثالث والعشرين من سبتمبر1919.
كانت الباخرةُ لوتس تقتربُ من السواحل الأفريقية وهي تمخرُ عبابَ البحر في طريقها إلى الإسكندرية، قادمةً من مارسيليا وعليها العميد طه حسين وزوجته سوزان الفرنسية التي تزوّجها في عامه الثاني من بعثته لدراسة تاريخ الأدب في السوربون في أغسطس عام1917.
أخذت معالم الإسكندرية تتضح شيئًا فشيئا، مع اقتراب الصباح، وظهور الشمس وارتفاع شعاعها الذي وُلد لتوّه فتيًّا وقويًّا ولافحًا، وقف الركاب يتطلّعون إلى المدينة، ومن بينهم الدكتور طه حسين عائدًا من البعثة في فرنسا، وقد وقف بجوار زوجته التي كانت تحيطُه بذراعها اليسرى وتحمل ابنتها الطفلة باليمنى، وتتطلع إلى المدينة التي بدتْ معالمُها تتضح بهدوء.
الصحراءُ تحيطُ بالإسكندرية كحزامٍ أصفر لا نهائيّ، نظرتْ في هدوء إلى قرص الشمس الذي خرج شاحبًا، وأقبلت نسمةُ ريحٍ شمالية استغربتها سوزان وهي تستعد لتطأ قدماها أرضًا شرقيّة للمرة الأولى، مدّت بصرها إلى الأرض الأفريقية ذات التاريخ العريق، التي ستصبح وطنها منذ اليوم الأول لوصولها طِبقًا لقانون الجنسيّة المصري
لا شكَّ أن نظرتها الهادئة لا تعكس تفكيرها المشوّش، كانت تقلّب الأمور، وتسأل نفسها عشرات الأسئلة ولا إجابةَ عندها: هل كان قرارها بالزواج من طه حسين صائبًا؟ إنها تؤمن بأن الأقدار تقودها إلى حيث تريد، وهي واثقةٌ في اختيارها، كانت هناك موجةُ غبار في المدينة القابعة في حضن البحر والصحراء، لم يعجبها امتداد الصحراء اللا نهائيّ كبحرٍ آخر يحتضن المدينة الساحلية بعنف.
لا تعرف شيئًا عن الأرض والبلد الذي سيصبح بلدَها، سوى ما أخبرها به الدكتور طه، حتى لغة البلاد العربيّة لم تستوعبها، ولكنها حفظت كلماتٍ قليلة يردّدها زوجُها طه حسين.
قرأت سيمون عن مصر في دوائر المعارف، وبعض كتب التاريخ والجغرافيا، لكنّها معلوماتٌ قليلة، لا تستوعب هذا البلد الذي عشقته من عشقها للرجل الذي من أجله جاءت إلى هذه البلاد.
في ذلك الوقت كانت الحياة في القاهرة والإسكندرية تمضي للأمام في هدوءٍ تام ظاهرٍ وصخبٍ مستتر، كعادة المصريين، أُناس يجمعون الثروات، ويُسرفون في الإنفاق، فقلّت كميات السلع المعروضة وهبط مستواها من حيث الجودة، بعض التجار ممن كانوا على ظهر السفينة قد جذبهم السجاد الشرقي فراحوا يُقبلون على الشراء دون تمييز، ولا تفرقة بين الغثّ والسمين.
لكن يبدو أن حديثَ الحملةِ العسكرية التركية على سيناء، كان يشغل الجميع، كانت الحرب لا تزال مستمرة، كما أن مناخ مصر يساعد على العيش بصحّة جيدة، وقد حامت طَرّادتين حول الباخرة لوتس، عند خروجها من مالطا، وكانتا على وشك إغراقها، ولكن الباخرة نجت بأعجوبة، ودخلت المياه المصرية مع بداية انقشاع ظلامٍ وانبلاج النور في الثالث والعشرين من سبتمبر1919.
في الوقت نفسه الذي كتب فيه الزعيم محمد فريد رسالته بعنوان «صوتٌ من وراء البحار« موجوعًا من الغربة، محرّضًا على الأمل في النصر، خصوصًا أن هذه الرسالة جاءت بعد شهور من ثورة الشعب المصري في 9 مارس 1919، بدا محمد فريد في رسالته كأنه يودّع الحياة، فبعد شهرين تقريبًا وتحديدًا في 15 نوفمبر 1919 زاره ملك الموت لتسلم روحه في منتصف الساعة الحادية عشرة مساءً بألمانيا، وبقي جثمانُه محفوظًا في تابوت حتى سافر الحاج خليل عفيفي التاجر بالزقازيق على نفقته الخاصة، وعاد به يوم 8 يونيو 1920 ليُدفن بمصر في جنازة مهيبة في الوقت نفسه الذي وُقّعت فيه معاهدة سان جيرمان، التي تُعتبر النتيجة الأبرز للحرب العالمية الأولى.
وُقّعت المعاهدة بين الحلفاء والنمسا وبتوقيع هذه الاتفاقية من قبل 27 دولة حليفة، كُسرت شوكةُ الإمبراطورية النمساوية المجرية، وقد أخّرت رومانيا ويوغوسلافيا التوقيع على الاتفاق، اعتراضًا على ضمانات المعاهدة التي أُعطيت للأقليات، إذ مضت عدة أشهر قبل أن تقتنع الدولتان بالتوقيع على الوثيقة وقد وافق البرلمان النمساوي على المعاهدة في السابع عشر من شهر أكتوبر 1919، وأصبحت سارية بدءًا من اليوم السادس عشر من شهر يوليو عام 1920.
كان طه حسين غارقًا في أفكارٍ أخرى تتعلق بقلقة على حالة البلاد في ظل الثورة، يقلّبها ذات اليمين وذات الشمال كما تتقلب الباخرة فوق سطح البحر. بعد إلغاء سفر أعضاء البعثة ضاقت الأمور على طه حسين، وبدأ يعاني من الفراغ الذي أسلمَه للملل، فهو ينام ويستيقظ ولا يجد ما يفعله، كان حسين قد قرّرَ أن يتقدم بطلب للجامعة لتعيّنه مدرسًا بها.
ووافقت الجامعة على تعيينه مدرسًا لتدريس الأدب الأندلسي. نظير مكافأة قدرها خمسة جنيهات في الشهر، وبدأ يستعد لتدريس المادة وإعداد المواد العلمية وقراءة كتب الأدب الأندلسي، ثم جاء اليوم الموعود، وتحدّد موعد السفر، وتقرر أن يسافر معه شقيقه، دون أن تتحمل الجامعة تكاليفه.
كانت فرحة طه حسين بقرار السفر هادئة، فقد تعوّد على كتمان انفعالاته الصاخبة، لأنه ربما لم يجد من يشاطره فرحته، فقط كان دائمًا منطويًا على نفسه ويناجيها بأحلام اليقظة التي تداهمه من آنٍ لآخر. ولكنه على أية حال أنهى إجراءات السفر، وسافر على متن الباخرة الفرنسية أصبهان. كانت فقيرةً وحقيرة كما وصفها طه حسين تمامًا كسيارة قديمة تئنُّ آلاتُها ومفاصلها كلّما تحركت وكلّما داهمتها هجمةُ ريحٍ عاتية، استغرقت رحلتها من الإسكندرية إلى ميناء مارسليا ثمانية أيام رغم أن المعتاد أن تستغرقَ تلك الرحلة أربعة أيام.
سافر معه شقيقه الذي سيعينه على الحياة الشّاقة في تلك البلاد الغريبة والبعيدة عن القاهرة إلى مونبلييه، وقد أمرتهما الجامعة بطلب العلم فيها ذاك العام. حيث استقرّا في فندقٍ فقير كسفينتهما التي قدما على متنها.
استقبل طه حسين حياته في مونبلييه سعيدًا بها. كان يشعر أنه في مكانٍ مختلف؛ بلدٌ خالٍ من الأتربة والذباب، أحسَّ بنظافتها. وبيوتها الواسعة لكل بيتٍ سقف عال يحقق له هدوءًا نفسيًّا، فلا يشعر بأنفاس من يشاركونه حجرتِه. بحوش عطا في حي الأزهر، كانت الحجرة لا تكتم على أنفاسه، كما كان يشعر في مصر، كما كان الفراش نظيفًا ورائحته طيبة، وكان خاليًا من البقّ والبراغيث والقمل. وهو ما جعله يشعر براحة، حيث كان في مصر يحكّ جسمه بأظافره دائمًا، والأهم أن الناس ليس لديهم رغبة في التدخل في حياة الآخرين؛ كلُّ واحدٍ مشغول بنفسه.
كان يذهب إلى الجامعة فيسمع فيها ما تيسر من دروس الأدب والتاريخ واللغة الفرنسية، ويضيف إلى علمه القديم علمًا جديدًا. كما كان عليه أن يتعلم اللغة الفرنسية واللغة اللاتينية، بدأ طه حسين يهيّئ نفسه لإتقان الفرنسية وتعلُّم اللاتينية. فسعى إلى أستاذ ضرير في مدرسة مخصصة للمكفوفين، ليعلّمه الكتابة والقراءة الفرنسية واللاتينية معًا. بلغة الأحرف البارزة والمعروفة بلغة برايل.
كان عليه أن يدفع أجر المعلم المكفوف من الراتب الذي خصّصته الجامعة ليعيش منه هو وأخاه، ولا يكاد يكفيهما، ولكنه جارَ على نفسه وأخيه، وتحمّل الكثير، لكنه لم يعد يطيق صبرا، فأرسل طه حسين للجامعة، وقامت بدفع تكاليف المعلم على حسابها.
كان طه حسين يقارن بين حياته القديمة وبين حياته الجديدة في تلك المدينة الجميلة. ويقيس الفرق العظيم بينهما، فيرى نفسه أسعد الناس وأعظمهم حظًّا من السعادة والنجاح، بدأ يتقدم في القراءة بتلك الطريقة الجديدة بالحروف البارزة، المعروفة بلغة برايل. ولكنه سرعانَ ما ضاق بها، فهو قد تعود على أن يتلقى العلم بأذنيه لا بإصبعيه، فضلًا عن ذلك لم تكن هناك كتبٌ مطبوعة بتلك الطريقة ليطّلع عليها.
وخلال العام الأول لطه حسين في باريس لم يخرج من بيته إلا إلى السوربون، ولم يتذكر أنه خرج من باريس إلى ضاحية من ضواحيها في أيام الراحة مع رفاقه، كما لم يعرف المقاهي في الحي اللاتيني في خلال هذا العام، والتي كان رفاقه يذهبون إليها. كان زملاؤه من المصريين يذهبون كثيرًا إلى تلك المقاهي.
اشتاق طه حسين إلى ارتياد المسارح والملاهي ومعاهد الموسيقى التي سمع عنها كثيرًا، ولكن لم يكن بإمكانه أن يذهب إليها بمفرده، ولا يريد أن يكلّف غيره من الناس عناء مرافقته وتحمُّل المزيد من النفقات التي تقتضيها تلك المرافقة أي أنه قضى هذا العام كأنه سجينٌ في باريس.
رافقت طه حسين ذكريات أبي العلاء المعري التي كانت تلازمه في أحلام اليقظة وفي الفترات التي لا يستمع فيها إلى الدروس، كانت السيدة التي عيّنوها لتساعده وتقرأ له الكتب، تصطحبه كلَّ يوم دون أن تلقي عليه كلمة، أو يسمع صوتها، كانت تعطيه ذراعها صامتةً، وعندما تصل إلى مقاعد الدرس كانت تتركه في مكانه، وتعود إليه بعد انتهاء الدرس، فتصحبه إلى منزله، وتتركه في حجرته، بعد أن تخبرَه أنها ستعود إليه في الموعد الذي تحدّده.
وعندما اعتذرت تلك السيدة الصامتة عن مهمتها، حلّت محلها سيدة أخرى ثرثارة، كثيرة الكلام كان كلامها يؤذيه أكثر من صمت الأولى.