تجليات موضوعية في الشعر المصري

بقلم د. أحمد فرحات

وتجلت في شعر المصريين روح التمرد، والرفض على الواقع المعيش، فعبروا عن رفضهم بأسلوبهم وطريقتهم، ياسر أنور ، كمال محمود ،ومحمد أحمد إسماعيل، ومحمد الشحات،د. سعد مصلوح على سبيل التمثيل، لا الحصر، علت عندهم روح التمرد والرفض، من منطلق أن التمرد أول خطوات الإبداع؛ فالشاعر القانع والراضي والمسلم بالأمرالواقع مقصر في حق نفسه، ووطنه، وفنه، ولن يجني من خنوعه سوى مزيد من القهر، والتسلط.  والشاعر المتمرد يقلق من حوله، يقلق الأفراد والمجتمع، والسلطة، ويقلق الحياة بكاملها، ومن هنا يمكن أن تجد عنده رؤية جديدة للواقع والكون، رؤية منطلقة من حتمية التمرد، والرفض، من أجل تغيير الواقع.

والحق أن التمرد والرفض كان من الشعراء والشواعر معا، فسلمى فايد، وهبة عبد الوهاب، وشيرين العدوي، وحنان الصناديدي، وشريفة السيد من الشواعر اللائي علت عندهن نبرة الرفض والتمرد، ومحاولة تغيير واقعهن للأفضل.  وشملت مظاهر التمرد العديد من القضايا. فكل هؤلاء يمكن أن نسمي تمردهم تمردا إيجابيا، مباشرا، وهناك من جنح إلى التمرد السلبي كمحمد الشحات الذي مال إلى جلد الذات، وكبت مظاهر التمرد داخل الذات المأزومة نتيجة انهزامها وكبح جماحها.

أما الشاعر كمال محمود ومحمد أحمد إسماعيل فقد جنحا إلى التمرد على بعض الأوضاع السياسية والاجتماعية بشكل واضح مباشر، ومحاولة تغيير جذري في محاربة الجهل والنمطية. أما سلمى فايد فقد علت عندها نبرة الرفض بشكل لافت، وأستطيع أن أصف ديوانها(ذاكرة نبي لم يرسل) بأنه ديوان التمرد والرفض، على كل الأوضاع التي أرقتها كشاعرة وإنسانة في المقام الأول، فقد احتل عندها الإنسان مكان الصدارة من اهتماماتها الشعرية، ووقفت وحدها تناضل كل أشكال العنف والقهر والغبن ضد الإنسانية.

لم يسر الشعراء المصريون في صف واحد، بل تنوعوا وتعددوا، فاختار بعضهم الشكل الكلاسيكي التقليدي للقصيدة، معبرا من خلاله عن ذاتة وتجاربه في الحياة، فهذا د. محمد سالمان يقتفي خطو القدماء، شكلا ومضمونا، وقد ألقى قصيدته باحتفالية أقامتها السفارة الجزائرية بطرابلس الغرب عام 2004م، وفيها يمدح الجزائريين مدحا تقليديا على نمط الشعراء القدماء، ولا يجد غضاضة أن يبدأ ويسهب في النسيب على غرار”بانت سعاد” فيقول

أسعاد جودي واعطنا الإسعادا

وصلي بقربك عاشقا معتادا

واختار بعضهم نظام السطر الشعري، فكتب معظمهم على هذه الطريقة، محافظين على الوزن الشعري، مهملين القافية ودورها اللافت في بناء النص، فمما يؤخذ على الشعراء المصريين تقصيرهم اللافت لنمط القافية، فلم يولوا اهتماما بها، على الرغم من أنها تؤدي وظائف متعددة في بنية القصيدة.   “إن القافية ركن مهم في موسيقية الشعر الحر؛ لأنها تحدث رنينا، وتثير في النفس أنغاما وأصداء. وهي فوق ذلك فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر، والشعر الحر أحوج ما يكون إلى الفواصل خاصة بعد أن أغرقوه بالنثرية الباردة ومن هنا يمكننا القول بأن القافية ” ليست أداة أو وسيلة تابعة لشيء آخر، غير أنها عنصر مستقل، صورة تضاف إلى الصور الأخرى، ووظيفتها الحقيقية لا تظهر إلا إذا أضيفت في علاقة مع المعنى) )”، فحيث يوجد تماثل وتشابه لأصوات القوافي يوجد أيضا بعض التماثل من ناحية الدلالة، وليس هذا مطردا على جميع القوافي، ولكن الأمر متروك لذوق الشاعر، وقدرته على الإتيان بقوافٍ متماثلة. وأحياناً يلجأ الشاعر إلى القوافي المتعانقة، (حيث تتفق قافية البيت مع قافية البيت الذي بعده، أو القوافي المتقاطعة، حيث تتفق قافيته مع قافية البيت التالي لما بعده، أو القوافي المستقلة التي لا تماثل بينها على الإطلاق.

وكل هذا لم نجده في القصائد المختارة، حتى عند الشعراء الذين ينظمون قصائدهم بطريقة تقليدية كلاسيكية، وهم كثر: محمود حسن، وياسر أنور، وعبد الله الشوربجي، وغيرهم مما ورد بهذه الطريقة.

كما سعى بعضهم إلى كسر رتابة الموضوع الشعري، ومحاولة معالجة النص الشعري من حيث موضوعه وتحويله إلى قضية كبرى يؤمن بها أو يخالفها، ولكن يعرضها عرضا شيقا للمتلقي، منهم محمود حسن، وياسر أنور اللذان ضاق بهما رتابة الموضوع الشعري فجنحا إلى تقديم موضوعات جديدة.

وعن اختيار قصيدة واحدة للمبدع، وهل تكفي وحدها لتقييم منجز الشاعر كله؟  فهناك شعراء عاشوا وماتوا ولم نعرف لهم سوى قصيدة واحدة، حتى عرفوا في تاريخ الأدب العربي بأنهم شعراء القصيدة الواحدة، عمرو بن كلثوم مثلا لم يعرف له سوى معلقته الشهيرة:

أَلا هُبّي بِصَحنِكِ فَاَصبَحينا

وَلا تُبقي خُمورَ الأَندَرينا

وفي الحديث عرف شعراء بأنهم أصحاب القصيدة الواحدة، منهم حسن المرواني، صاحب قصيدة أنا وليلى واشطبوا أسماءكم، التي غناها كاظم الساهر، وتبدأ بقوله:

مَاتَتْ بمِحْرَابِ عَيْنَيْكِ ابْتِهَالاتي

وَاسْتَسْلَمَتْ لِرِيَاحِ اليَأْسِ رَايَاتي

وغيرهما من الشعراء الذين لم يعرفوا إلا بقصيدة واحدة، مثل: دوقلة المنبجي، ومالك بن الريب، ابن زريق البغدادي، عبد يغوث الحارثي، المنخل اليشكري، متمم بن نويرة، الصمة القشيري، الأحيمر السعدي. إن وردة واحدة من طراز نادر قد تختزل الربيع كله ليظل عبيرها محمولا مع النسيم على مدى الأزمنة.

واستنادا إلى ما سبق فإن قصيدة واحدة لشاعر ما قد تعبر عن مجمل منجزه عموما، وتمنح القارئ رؤية كاشفة لمجمل أعماله، وقد انتهجت هذا المنهج في كتاب المنصفات في الشعر العربي من الجاهلية إلى نهاية العصر الأموي، وفيه درست لشعراء جاهليين مغمورين، وكشفت النقاب عنهم، وعن أسمائهم، ومنجزهم، وقد قدمت للقارئ العربي رؤية موجزة للعصر الجاهلي من غير ترديد لأسماء الشعراء المشهورين، معتمدا على النص نفسه في كشف صاحبه، واتجاهه الفني، ومن ثم قدمت أسماء لم تكن معروفة في عصرنا أمثال: عبد الشارق بن عبد العزى، والمُفَضّل النُّكْرِيّ، وعَوف بن الأحْوَص، وعمرو بن قَمَيئَة، وخِدَاشُ بن زُهَير، والعُدَيل بن الفَرْخ، وامْرُؤ القَيس السكوني، و أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت، وأوس بن حَجَر، وغيرهم مما ورد في الدراسة.

ولا يعني (شاعر القصيدة الواحدة) أنْ ليس له شعر غيرها، بل لأنه اشتهر بها، رغم وجود شعر له غير هذه القصيدة، وقد خصص ابن رشيق القيرواني في العمدة بابا في الشعراء المقلين الذين عرفوا بالقصيدة الواحدة، وذكر منهم: عبدة الفحل، وعدي بن زيد، وطرفة بن العبد وقال: هؤلاء أشعارهم كثيرة في ذاتها، قليلة في أيدي الناس.

ومن منهجي أن أختار للشاعر أفضل القصائد لديه، وهي التي يختارها الشاعر نفسه عنوانا لديوانه، فعندما يختار الشاعر عنوان قصيدة من قصائد الديوان عنوانا لديوانه فإنه يدل على مكانة هذه القصيدة لديه، أو محلها من وجدانه وشعوره، ولذا كنت أركز على القصيدة التي عنوانها هو عنوان الديوان نفسه.